anyquizi logo

أعز ما تملك

أعز ما تملك

أعز ما تملك


كانت هذه هي الليلة الأولى التي يلتقيان فيها منفردين في مكان .. وكانت تجلس في استرخاء كأنهـا تنـام .. وشفتاها تهمسان .. في حلم .. وصوتها يرتجف ..

ـ دعنى أحكى لك الأشياء التي لم أقلها لأحد ، وأصـارحك بالحقيقة التي لم أواجه بها مخلوقا حتى نفسي ..

أنـا إنسـانة جبانة تماما .. لقد عشت ثلاثين سنة على تقليد الناس ومحاكاتهم .. حينمـا كنت في مدرسة البنات كنـت أعيش علـى خيـالات زمیـلاتی وأحلامهن .. كنا نجتمع بالليل في غرفة النوم ، وتحكي كل واحدة مقامراتها ، وتصف الولد الذي تحبه ، وأجلس أنا أستمع إليهـن وأهيم بكل هؤلاء الأولاد وأتغذى على هذه الخيالات وأستعير هذه الأحلام لأملأ بها وحدتي وفراشي .. فلم تكن لي مغامرة أحكيها مثل بقية البنات .. وكانت الناظرة تقول عنى إنى فتـاة طاهرة الذيل ومستقيمة .. ولكنى كنت أعلم أني لست طاهرة كما تتصور الناظرة .. ولكنى ملوثة .. فكري ملوث .. وأحلامي ملوثة .. وجسمی ملوث بالرغبات .. التي لا أجرؤ على تحقيقها .. وحينما كنت أقف أمام المرأة وأسمع صوت أمي تقول لـي .. أنت مثل الولد .. لا ينقصك إلا الجاكتة والبنطلون لتكوني ولدا .. كنت أبعد عيني عن المرأة وأرتدى ثيابي بسرعة .. وأهرول إلى المدرسة .. وكنت طوال الطريق أهرول وأجـرى وأسرع في خطواتي كأن هناك شرطيا يجري خلفي..

كان يخيـل إليّ أن الناس ينظرون إلى ظهري وإلـى كتفـي العـريضتين وشعري القصير كشعر الولد .. وكنت أجرى هاربة من نظراتهم .. وكانت مشيتي السريعة الجافة تضفي عليّ مظهرا آخر مـن مظاهر الجد والاستقامة .. وكنت أسمع جيراني يقولون .. هذه البنت المؤدبة .. انظروا كيف تمشي كما يمشي الرجل .. لا أحد يجرؤ على معاكستها .. والحق أني كنت أموت شوقا إلى معاكسة .

وحينما فكرت ناظرة المدرسة في إنشاء فرق للنشاط المدرسي لم يخطر بذهنها أي فتاة لتكون رئيسة فريق الرياضة البدنية سوى.. فاطمة .. بالاسم .. وهكذا أصبحت رئيسة فرقة الرياضة البدنية مع أني كنـت أذوب شوقا لأكون في فرقة الرقص أو الغناء أو الموسيقى . ولكن .. كيف أجرؤ على إعلان هذه الرغبة .. وأنا فـاطمة .. البنت المؤدبة .. الجادة .. التي تسير كما يسير الرجل ..

وهـكذا أصبحت بطلة في السباحة .. أسافر وأكسب بطولات .. وأفـوز بكؤوس برونزية وفضية . ولكن في أعماقي .. في أعمق أعماقي .. كانت هناك حقيقـة أخرى .. كنت امرأة .. أنثى .. أذوب شوقا إلى لمسة غزل وأتحرق إلى نظرة فيها رغبة .. كنت أتمنى أن أشعر بطمع رجل في أنوثتي .. ولكنني كنت أجري وراء شيء مستحيل ..

كان الاحترام يحاصرني أينما ذهبـت والتقدير والاجـلال والاعجاب ببطولتي يطالعني في كل عين .. وكان في مظهري شيء يقتل رغبة الرجال ويخرس ألسنتهم ويجبـرهـم علـى الـوقوف أمامي في تهيب وتحفظ .. وكان حضوري في مكان ينشر حولي هالة من الجسد ، فيـكف الرجال عن الكلام المبتذل ويصلح كل واحد من مظهره ويجلس مهذبا .. ويقدمني المضيف إلى ضيوفه في أدب .. مدام فـاطمة المشرفة الرياضية في النادي .. ورئيسة فريق السباحة .. والبطلة الحائزة على كذا وكذا .. والمفتشة في قسم التربية البدنية في الوزارة .. والحقيقة أنني لم أكن أشعر بأي سعادة أو فخـر لهـذا التقديم .. وإنما كنت أشعر بالغيظ .. وكنت أشعر بأنفاسي تضيق من الصمت الذي يخيم على الجماعة .. وبأني أختنق في هـذه الهالة من الاحترام التي تحوطني ..

كنت أشعر أني سجينة في هذه الهالة .. وأن في داخلي امرأة أخرى .. لم تكتب لها الحياة أبدا .. وكنت أحيانا أقف أمام المرأة .. وأمشي مثل مارلين مونرو .. وأهز أردافي .. وأحيانا كنت أتأمل نفسي وأنا أغتسل في الحمـام وأتحسس صدري وأنا أكاد أبكي لماذا لا يعاملني الناس على أني امرأة ..

وحينما خطبني زوجي وقال لي يوم الخطوبة لقد اختـرتك .. لأنك مؤدبة .. وجادة ومحترمة .. ومهيبة .. أحسست أنه صفعني .. لماذا لم يقل : إنه اختارني لأني جميلة وجذابة ومثيرة .. وانهار أملي الوحيد الباقي .. أن أجد بيتا أتنفس فيه .. بيتـا غير بيت أبي وغير النادي .. وغير مجتمع الأصدقاء الذي أموت فيه وتموت حقیقتي منذ ثلاثين عاما ..

ودخلت بيت زوجي لأعيش كما أعيش في النادي .. جـادة مؤدبة .. محترمة .. وفي الفراش .. حينما كنت أختلي بزوجي في المساء بعـد أن يذهب كل الناس .. وينتهي النهار بصخبه وضجيجه .. كان زوجي يأخذنى بين ذراعيه في احترام .. ويقبلني في هيبة .. وكنت أشعر أن علي أن أقوم بدور المشرفـة .. والمفتشـة .. والأستاذة .. حتى في الفراش .. وكانت .. وكانت أنفاسي تضيق وكان صدري يضيق ...

وظلت علاقتنا باردة منتظمة لا طعم لها .. وظللت أشعر في أعماقي أني مازلت بكرا .. لم أدخـل دنيـا .. وانتهى زواجي الفاشل بالطلاق .. ولم يدخل حیاتي رجل .. ولم أشعر برجولة رجل حتى التقيت بك .. ووقفـت تـحـدثني وتختلس النظر إلى صدري .. في اشتهاء . وشعرت يومها بالخجل وغطيت كتفي بالشال .. وكانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أغطي فيها جسمي من نظرة رجل .. فقد تعودت ألا يثير جسمي العـاري شيئا في عيـون الرّجال ..

وفي المساء حينما كنت توصلني إلى البيت وتقـول لـي : " إن صدری ليس صدر سباحة وإنما هو صدر امرأة .. وإن جسـمي المتفجر هو جسم أنثى .. وإننى أثيرك .. كنت أرتجف تحت وقع هذه الكلمات ، كنت أرتجف من الفرح . هذه أنا .. هذه حقیقتی تجد صداها في عيني رجل .. أخيرا .. وجدتك .. وأحببتك .. وعبدتك .. وشعرت أنك رجلي .. إن أعز ما تملك المرأة ليس هو جسدها أبدا . أعز ما تملك المرأة هي ذات نفسها وحقيقتها وروحها .. وقد ظلت نفسي بكرا لم يدخلها أحد .. حتى دخلتهـا أنت .. ودخلت دنیاي .. كنت أسير محجبة .. لم يحدث أن رفعت الحجاب طيلة ثلاثين عاما .. حتى أمام نفسي .. كنت أتغطى .. وأخفي وجهي .. وأخفي رغبتي .. وأكذب .. وأمثل حتى مزقت أنت هذه الكذبة بنظرة واحدة من عينيك الوقحتين ...وأيقظت حقیقتی من مرقدها ..

وهذه أنا أتكلم كما لم أتكلم في أي يوم من أيام حياتي .. من كان يظن أني سوف أنطق بهذه الكلمات .. وأمام رجل .. إنها لحقيقة مضحكة .. ولكني أشعر .. أشعر أني اليوم واليوم فقط .. فقدت أعز ما أملك ... اليوم فقط أدخلت رجلا في دنياي .. كم أتمنى لو يعلم الأزواج .. أن اقتحام جسد امرأة في ليلة زفاف .. ليس شيئا .. ليس شيئا بالمرة .. وأن المهم أن يدخلوا إلى نفسها .. أولا...

من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود


عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر
تابعنا على الفيسبوك تابعنا على تلغرام

إختبارات قد تعجبك