anyquizi logo

حينما يقع المحظور

حينما يقع المحظور

حينما يقع المحظور


قتل طفل ١١ سنة ، زميله ١٠ سنوات ، حرقا بسـبب الكرة . كان الأطفال يلعبون في حدائق القبة ..

اختلف الطفل محمود ابراهيم مع منافسه في اللعب عبد الله حسـن حـول « جول ... قال الأول إن الكرة دخلت الجول .. وعارض الثـاني .. فتماسكا وتصادف أن كان أحد الخفراء يشعل النـار في كومـة كبيرة من الورق المهمل .. دفع محمود خصمه عبد الله فـوقع في النار .. أمسكت النار بملابسه وجسمه .. حاول الأهالي إنقـاذه .. نقلته الاسعاف إلى مستشفى الدمرداش حيـث تـوفى متـأثرا بحروقه .. تولى التحقيق أحمد فوزي إسماعيل وكيل نيابة أحداث القاهرة ..

جريمة بشعة وقعت بحي الساحل .. حلاق يقتل صاحب مطعم لأنه رفض إعطاءه كوبا من الماء لابن أخته .. القـاتل يعـاتب صاحب المطعم وتتحول المعاتبة إلى مشادة يستل فيها سكينا ويذبحه ثم يسحبه إلى الشارع ليطعنه عشر طعنات ثم يجـري إلى قسم الساحل ليعترف بجريمته ..

وهذا تفصيل ما حدث .. في الساعة الحادية عشرة مـن الصـباح اقتحـم شـاب « ٢٣ سنة » مكتب المقدم حسن المهيري مأمور قسم الساحل وكان أصبعا سبابته وإبهامه يقطران بالدم .. ورقبته وصدره مصـابين بحروق بينما يمسك في يده اليمنى بسكين طـويل نصـلها ٣٥ سنتيمترا وملوثة بالدم .. وبلا مقدمات صاح في المأمور قائلا .. اخفیني يا فندي .. أنا اسمى أحمد أحمـد .. بـاشتغل حـلاق .. ويوسف شديد صاحب المطعم اللي في الساحل ضربني فضربتـه بالسكينة اللي في إيدى .. المطعم في شارع عشرة .. وانتقلت المباحث والنيابة إلى مكان الحادث فوجدت صاحب المطعم مذبوحا من رقبته وجثته ممزقة وبها عشر طعنات وقد غمرها الدم .. تبين من التحريات أن للقاتل ابن أخت صبي ترزى يعمـل بجوار المطعم .. وأنه تعود أن يأخذ الماء من المطعم .. ومنـذ ثلاثة أيام توجه الغلام لطلب كوب ماء فرفض القتيل وطـرده .. ووقعت مشاجرة بينه وبين الترزي ثم تصالحا ..

وبعد أيام علم القاتل وهو خال الغلام ويعمل حـلاقا بمـا حدث فتوجه إلى المطعم ليعاتب القتيل .. وحضر الأخيـر بعـد ساعة وشاهد الحلاق وابن أخته وصهره وعمال محل الترزي في انتظاره .. فتوجس شرا وخيل له أنهم يتربصون به للاعتداء عليه وهرب إلى داخل المحل .. فجرى الحلاق خلفه فأمسك القتيـل المذعور بإناء به ماء مغلي على مائدة المطعم وقذف به في وجه الحلاق وأصابه بحروق شديدة .. وجن جنون الحـلاق فـأمسك بالسكين التي يقطع بها صاحب المطعم اللحوم وجذب القتيـل إلى باب المحل وذبحه من رقبته ثم سحب الجثة إلى الشارع وراح يطعنه في جنون عشر طعنات .. وأصيب القاتل في سبابته وإبهامه أثناء الجريمة .. وووجه المتهم بالتحريات فقرر أنه لم يكن يقصد قتل صاحب المطعم الذي استثاره .. وشرع في البكاء .. أمـر وكيـل النيابة بحبس القاتل على ذمة التحقيق .. كما وجه إليه تهمـة القتـل العمد مع التربص .. ما زال التحقيق مستمرا ..

هذه عينة من الحوادث التي نقرؤها كل يوم في صفحة الجرائم .. وبطلها دائما رجل في حاله .. لا به .. ولا عليه .. تنقض عليه المصيبة فإذا به بين لحظة وأخرى في الحديد وعلى رأسه دم قتيل .. ومشنقة .. وسجان .

إنه قاتل من حيث لا يعلم .. قاتل وهو صبي في سن ١١ سنة .. أو مثل هذا الحلاق .. رجل بلا سوابق .. ذهب في مشوار ليعاتب جاره فعاد ملطخا بـالدم يلهث من الرعب ويلوذ بالبوليس لينقذه ..

والقاريء يمر على هذه السطور وهو يرتجف .. وفى قلبه رعب بدائي من أنه قد يخرج ذات يوم من بيته ويعود في الحديد .. أو على نقالة أو لا يعود على الاطلاق .. فالمستقبل مرهون دائمـا بما يخبئه الغيب .. مرهون بالمقدور .. ولا أحد يستطيع أن يعرف ماذا يخبئة الغيب .. ولا ما يحجبه المقدور ..

لا أمان .. ولا ضمان .. كل شيء جائز .. احتمالات الصدفة والاتفاق والقدر لا حدود لها .. وأنا أفكر كثيرا في أمثال هذه الحوادث .. وأسأل نفسي .. هل احتمالات الصدفة والقدر لا حدود لها فعلا .. وهـل يمكن أن ينقلب الانسان في لحظة إلى قاتل .. ويتصرف كوحش من وحوش الغاب .. هل يمكن أن تجرده الصدفة من أخلاقه وتسوقه إلى ما ليس في طبيعته ..

هل للحوادث صفة الحتمية .. والقهر .. هل يمكن أن تقهر الانسان على ما ليس في طبعـه .. أم أن دورها ثانوي .. لا يزيد عن كونها تعطي فرصة لظهور خفايا هذا الطبع وانكشاف خفاياه ومكنوناته .. وأننا في الحقيقة لا نصادف في طريق الحياة إلا نفوسنا ..

فإذا وقعنا في الجريمة فنحـن مجرمون بالسليقة ولم تفعل الصدف والحوادث أكثر مـن أنهـا دبرت المناسبة لتظهر حقيقتنا..

أنا من هذا الرأي .. أنا أعتقد أن الانسـان أقـوى مـن الحوادث .. وأنه لا شيء مما يحدث في الخارج يمكن أن تكون له صفة الحتمية على إرادة الانسان وأننا في لحظة المأزق .. والـكارثة .. حينما يحدث المحظور لا نقع ولا نتورط .. وإنما نختار .. نختـار حقيقتنا .. ولا تفرض علينا الحوادث مصيرا .. ليس فينا .. إن بذور الاجرام موجودة .. كل ما تفعله الصدفة أنها تعطي الفرصة .. والظروف المناسبة .. لهذه البذور لتؤرق دما ..

القتيل صاحب المطعم في الحـادث .. قتلـه خـوفه وذعـره وتصوره لمطاردة وهمية لا وجود لها وعدوان خيـالي يتعقبـه .. والظروف وضعت تحت يده إناء من الماء المغلى ليدافع به عن نفسه لقاء هذا العدوان .. وتهوره عجل بالنتيجة فأمسك بــالإناء وقذف به في وجه القاتل ..

الدوافع المحركة لهذا العمل هي من صميم طبيعة القتيـل .. الخوف والذعر والتهور والاندفاع .. وكان من الممكن أن تتحالف هذه الدوافع لتؤدي إلى نفس النتيجة في أي مكان وفى أي فسحة أخرى من عمر القتيل إذا حدث ولم تقع هذه الجريمة .. وامتد به العمر ... إنه لا بد واقع في مثل هذه الحماقة .. إن بذورها فيه.. ولـم تفرض عليه الصدفة شيئا ليس في طبعه .. إنهـا فقـط أعـطت الفرصة لهذه الطباع لتظهر على أبشع حقيقتها ..

وبقية الحوادث تسلسل منطقي .. الوحش الآخر .. الماء المغلى مصبوب عليه .. وصدره يحترق ووجهه يحترق وغضبه يشتعل والصدفة تضع تحت بصره سكينا مشحوذة . طولها ٣٥ سنتيمترا .. لو أن فيه طبيعة الذي يتوقى الشر بالابتعاد عنه لا يتعد بنفسه وآثر السلامة .. ولكن طبيعة الوحش المفترس في قلبه .. وهـي الطبيعة التي دفعته لأن ينقض ويذبح .. ولا يذبح فقط .. وانمـا يمثل بضحيته بأن يمزقها بعشر طعنات... فمنذ اللحظة التي ذبح فيها الضحية لم يعد هناك خطر يخشاه على نفسه .. لا شيء يحتم هذه الطعنات العشر .. ولا مبرر من الواقع يدفع للتمثيل بالضحية .. إنما المبرر هو الواقع النفسي الذي يعشش في قلبه .. إنه ليس رجلا جريحا .. وإنما هو وحش جريح ..

إنهـا لـحـظة اختيار إذن .. وليست لحظة حتمية .. لحظة اختار فيها الـوحش نفسه وأفصح عن طبيعته ...وفى أي ظروف مشابهة كان لابد لهذا الوحش أن يقتل .. وفى المناسبات الكثيرة للعدوان التي لابد تعرض لهـذا الـوحش في خلال عمره .. بسبب هذا الحادث .. أو بغيـره .. كان لابد أن يقتل .. إننا نساهم في خلق الحوادث التي تشكل مصيرنا .. كل واحد تحدث له الحوادث التي على شاكلته .. وعلى شاكلة نفسيته ..

والطفلان اللذان يلعبان بالكرة على مقربة من النـار لا يوجد فرق كبير بينهمـا وبيـن قـائدين عـظيمين مثل « کینیدی » وخروشوف وهما يلعبان بالكرة الأرضية على مقربة من النار الذرية المشتعلة ..

وحينما يلقي أحدهما بالآخر في النار فإنها لن تكون صدفة .. وحينما يلقي البشر حتفهـم في حـرب فناء .. فإنها لن تكون صدفة .. فهناك في صميم القلوب تلك البذور .. بذور الشر .. والحقـد .. والكراهية .. خلف العيون الذكية التي تبدو عليها الطيبة توجد الوحوش النائمة ..

الناس في الشارع الذين يظهرون وكأنهم سذج بسطاء يمشون في حالهم .. هم أنفسهم الجلادون الذين كانوا يسلخون جلـود الضحايا في معسكرات الاعتقال النازية .. الملايين أمثالهم مشـو خلف هتلر وخربوا العالم وأحرقوا النساء والأطفال بقنابلهم ..

ولو أنك صادفت واحدا منهم في الشارع لما وجدته يفترق عن رجل الشارع البسيط في كل مكان وزمان..

أنا لا أصدق أن ما يحدث لنا غريب علينا وعلى طبائعنا .. لا أصدق أن الظروف يمكن أن تدفعنا إلى فعـل ينـافي ضمائرنا .. لا أؤمن بالحتمية .. فحينما يسوقنا إلـى قـدر .. هو في الحقيقة يسوقنا إلى نفوسنا ..

إن المقدور المحظور حينما يقع .. لا أحد يفرضه علينـا .. وإنما نحن نختاره .. وما يحدث لنا هو بصماتنا .. بصـمات نفوسنا .. اقرءوا صفحات الجرائم .. وفكروا من جديد .. وقولوا لى .. هل أنا على خطأ .. أم على صواب ..

من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود


عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر
تابعنا على الفيسبوك تابعنا على تلغرام