شيء غير اللذة الجنسية
الحب لون نادر ساحر من ألوان الاتحاد .. ما تقوله لنا الكتب الجنسية الرخيصة مـن أن الحـب هـو توفيق اثنين في أن يصلا بعلاقتهما إلى ذروة الاشباع الجنسي .. كلام غير صحيح ..
فالاشباع الجنسي يمكن تحقيقه بأيسر السبل بدون حب وبدون تفكير وبدون عناء يذكر ..
وهو أحيانا يتـم في لقاء المصادفات .. وفي العلاقات العابرة .. التي لا تخلف شيئا في الذهن ولا تترك أثرا في الخيال .. وأحيـانـا يتـم مع وجـود الكراهية ..
وهو إشباع ينتهي في أحسن الأحوال إلى حالة من الـوخم والخمول والتبلد الذهني .. وهو إشباع يمكن أن تمنحه أيـة امـرأة مثـل الأخـرى ..لا يشترط امرأة بعينها .. لأنه اتصال أخرس في الظلام .. يمـكن أن يحركه الحر وتذكيه لزوجة الأجساد بـأكثر وأكفـأ ممـا يحركه الحب ..
وحينما يشتاق الرجل إلى هذا الاشباع ، فهو في العادة يشتاق إلى الاشباع نفسه لا إلى إمرأة بالذات .. وهو لهذا يحـاول أن يحقق له ظروفه التي يواتيه فيها ، فهو يسعى إلى الخلـوة ويتعاطى المخدر إذا كان مدمنا ، أو يشرب إذا كان سكيرا أو ينزل على الأكل إذا كان أكولا .. ثم بعد ذلك أية امـرأة مثـل الأخرى ما دامت عندها المـواصفات الجسدية المطلوبة .. وما دام هو في حالة لياقة ..
وكلما كان الاثنان في حالة غباء وتبلد فالمتعة عادة تـطول وكلما استطاع الرجل أن ينسى أن معه امرأة تشاركه فراشه كلما كان أكفأ في أداء وظيفته .. فلا عجلة .. ولا تـوتر .. ولاحتـى إحساس ..
هل يكون هذا حبا .. أبدا .. برغم كل ما يقال عن الجنس وأهميته في نظريات علم النفس الحديث .. وبرغم كل ما يقوله فرويد وغير فرويد .. فلا شك أن الحب شيء غير الجنس ..
لا أقول هذا لأني رومانتيكي .. ولكني أقوله لأني علمي أنظر نظرة علمية إلى الانسان .. وأرى أن الانسان كائن شديد التعقيد لا يمكن النظر إليه باعتباره جسدا فقط ، ووظائف عضوية فقـط وأحشاء فقط وغرائز فقط ..
ومن ينظر إلى الانسان هذه النظرة المحـدودة لا يكون علميا .. وهو في الواقع يقتل الانسان بهذه النظرة ويحوله إلى رمة وجيفة .. وبالتالي لا يصل فيه إلى حكم صادق ..
الحب أدواته الذكاء والحس المرهف والعاطفة المتوقدة والبصيرة الشفافة والفطرة النقية والوجدان المتألق ..ولا يمكن أن تكتمل لذاته في جو المخدرات والغباء والبلادة الذهنية ..
والحب لا يذكيه الحر ولا تثيره لزوجة العرق .. ولا يمكن أن تحل فيه امرأة محل أخرى لأنه ليس علاقة الرجولة بـالأنوثة .. وأنما هو علاقة رجل معين بامرأة معينة ..
والحب لا شبع فيه لأنه ليس خطة وفخا إلى لقـاء جسـدى عابر ولكنه تجاوز دائم للواقع واحتمالاته وتخط لحاجز الجسـد بحثا وراء لقاء عميق واتحاد في الجوهر .. وهو اتحاد مستحيل .. فالاثنان لا مفر من أن يظلا اثنين ولن يصبحا واحـدا أبـدا .. ولهذا فالحب مقضىدي عليه بالتشوف والنزوع والاتباع والجـوع بلا شبع ..
والحب لا يذكيه إشباع الجنس .. لأن الحب هو المانح الذي يمنح لذة الجنس ، وهو الذي يجعل هذه اللـذة قريبة ميسرة تحققها لمسة يدين ولقاء نظرتين .. بينما يظل الجنس بذاته لذة خاوية لا تستطيع أن تمنح حبا ..
والحب الحقيقي لا يطفئه حرمان .. ولا يقتله فراق .. ولا تقضي عليه أية محاولة للهرب منه .. لأن الطرف الآخر يظل شاخصا في الوجدان ..
ألم أقل إنه لون غريب من ألوان الاتحاد .. كما تتحد العناصر في الطبيعة فينشأ عنها مركبات لا يمكن تفريقها إلى عناصرها إلا بالنار والكهرباء .. كما يذوب السكر في الماء فلا يمكن فصـله إلا بالحرارة والتبخير .. وحتى البللورات التي تنفصل في تلك الحـالة تـظل محتفظة بالماء في داخلها على هيئة « سكر نبات » .. وأحيانا يكون الاتحاد وثيقا عميقا مثل اتحاد مكونات الذرة .. إذا تيسرت القوة الكافية لتفريقها انفجـرت وأدت إلى قنبلـة ذرية ..
والحب بالمثل اتحاد شديد العمق يؤدي التفريق فيـه إلـى سلسلة من انفجارات العذاب والألم قد تستمر حتى الموت .. وقد تنتهى بتغير الشخصية تماما وتحولها .. كما يتحول الراديوم بعد تفجر الاشعاع بداخله إلى رصاص ..
أي لون من ألوان الاتحاد هو ! ؟ ..
إنه قطعا ليس اتحادا بالجسد .. وليس هوى نفسين .. ولا تلاؤم مزاجين .. ولا تفاهم عقليتين .. ولا هو العثور على فارس الأحلام .. ولا هو ارتياح الفطرة إلى فطرة أخرى تعاشرها ..
إنه يحتوى على كل هذا بالطبع .. ولكنه يحتوى على ما هو أكثر .. وما هو أهم .. على وحدة أعمق من كل هذه الاتحادات الـواضحة المفهومة .. وحدة أصيلة كالقدر والضرورة والمصير تجمع الاثنين عبر كل حدود الممكن والواقع ، ورغم حوائل الزمان والمكان .. وحـدة لا يجدي فيها فراق ولا تبترها قطيعة .. فهي تبدو أحيانا كوحدة تاريخية قديمة ..
إذا كان من الممكن أن يكون لكل نفس مـن هذه النفوس تاريخ قديم قبل أن تولد .. فكل منهما يشـعر أنـه كان يعرف الآخر منذ زمن وأنه ليس غريبا عليه ..
كل منهما يتعرف على الآخر كأنما يتعرف على شخص قديم حميم .. وحدة غامضة لم يجد لها العلم اسما .. ولا مانع من أن نستعير لهـا التسمية القديمة والـوحدة الروحية ... تسمية أكثر غموضا .. ولكن ما باليد حيلة .. ليس عندنا غيـر هذه الكلمة الصوفية القديمة « الروح » نسمي بها ما نشـعر بـه ولا نعرفه في داخلنا ..
وإذا كان المفكرون الماديون لا يعترفون بهذه الكلمة .. فهذا لن يحل الاشكال بالنسبة لهم .. فسنظل نسألهم اسما لما نشعر به ولا نعرفه في داخلنا .. وسيظل هناك شيء وراء مـدركاتنا الحسية .. شيء حقيقى لا وهمي .. يحتاج إلى تفسير ..
ولهذا يبدو دائما في نهاية التفكير أن الحب كالفـن والـدين والحرية تقف كلها على أبواب الميتافيزيقا .. وأنها ظواهر مختلفة لما يخفي وراء مدركاتنا الحسية .. . ولا نقصد هنا حب نواصي عماد الدين والأمريكين وكوبـرى قصر النيل بعد الساعة الواحدة .. ولا حـب سـن السـتاشر .. ولا حب آخر السهرة بعد أن ينتهى برنامج الكباريهات ويبدأ نشاط البارات .. ولا حب « أبو عيون جريئة ... ولاحب كازانـوفا ..
فبعض هذه الألوان من الحب مرض وبعضها فضول وبعضـها فراغ وثراء ودلع وفخفخة وبعضها غرور وحب للنفس أكثر مما هو حب للآخرين وبعضها مصالح وصـفقات وأغلبهـا نـزوات جنسية عابرة .
أما حبنا الذي نقصده فهو ذلك الحب النادر الذي ينمـو في علاقات قليلة ويعيش ويتحدى النسيان ويضفي النبل والجـلال على أبطاله ويصبح حكايات تردد باحترام وتأثر ..
ومثل هذا الحب نادر في زماننا ندرة الصبار المكتنز بالماء في الصحاري الجرداء .. ولكنه موجود على أي حال .. شكرا لله ..
أذكر أني قرأت في خبر طريف من النمسا أن شابا أدخـل رأسه بين أسوار الحديقة ليقبل حبيبته ولما انتهى مـن قبلتـه حاول أن يخرج رأسه فلم يستطع .. واستدعى الأمر الاستعانة ببوليس النجدة .. وفي غراميات هذا العصر الذرى يحدث كثيرا أن يدخل شاب رأسه في قفص الحب ثم لا يعدم وسيلة لاخراج رأسه والافلات بجلده كلما أراد دون الحاجة إلى بوليس النجدة .. وقد يدخل رأسه ويخرجها عدة مرات في عدة أقفاص .. ولكن في حبنا الذي حكينا عنه حيـث الحـب قـدر وضرورة ومصير لا يستطيع العاشق أن يخرج رأسه من قفص الحب إلا بقطعها ..
هل منكم من يريد أن يحب حبا حقيقيا..
من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود