عن الحب والرعب
ما إن طلب مني الصديق العزيز ( محمد سامی ) صاحب " دار ليلي " أن أكتب مقالاً عن ( الدب والرعب ) ، حتى وجدت الأمر سهلا .. كلنا نخاف الدببة .. تصور أن يجلس عاشقان يتهامسان في حديقة الحيوان ليكتشفا أن من يصغى لهما في استمتاع ليس مخبرا وإنما هو دب أشهب ضخم .
الأجمل أن تهيم الفتاة حبا بهذا الدب وتتخلى عن حبيبها .
كتبت مقالاً ممتازا عن هذا وأرسلته لـ ( محمد سامي ) ، فوجدته يتصل بي .. كان محرجا لكنه حازم . قال لي ما معناه إنني سمعت موضوع المقال خطا .. موضوع المقال هو ( الطب والرعب ) . الطب والرعب ؟ ..
فهمت .. إن الطب مرعب بما يكفي .. من جهة الطبيب فهناك رعب لا يوصف اسمه الامتحان الشفوي ، عندما تقف خارج اللجنة تراقب الجثث الممزقة الدامية التي يلقى بها خارج غرفة الامتحان وأنت تعرف أن دورك آت حتما .. لا مفر ..
هناك رعب المريض من الطبيب بنظرته الباردة الصامتة التي تكتم قلقا لا شك فيه .. و .. هكذا كتبت مقالاً ممتازا وأرسلته لـ ( محمد سامي ) .
منذ صار محمد ناشرا محترفا طرأت عليه تغيرات مهمة : صارت عيناه تبعثان الشرر ونما له كرش صغير ، وأحيانا ما يقضم حناجر المؤلفين لكن هذا ليس تصرفا معتادا لحسن الحظ .
الخلاصة إنه تحول إلى ناشر من الذين تقرأ عنهم في القصص ، لكنه اتصل بي وكان مهذبا بتلك الطريقة التي تقول بلا كلمات : " حضرتك عجوز مخرف " ، وشرح لي أن موضوع المقال هو ( الحب والرعب ) . قال لي إن المقال الذي أرسلته ممتاز برغم هذا ، وعرفت من صوت خشخشة الأوراق أنه يقول ما يقول وهو يلقي به في الزبالة .
الحب والرعب .. يا سلام ! .. لماذا لم تقل هذا يا اخي ؟ .. جميل جدا .. ارتباط اللفظتين شائع في كل مكان تقريبا ، والسبب طبعا هو تشابههما ..
الحب والحرب والحب والرعب .. لكن من ناحية المعنى والإيحاءات هناك ارتباط قوي فعلا . ارتباط قوي إلى درجة أنه صار مملا .
هل تريد دراسة سمجة مملة كابوسية قذرة موثقة بالمراجع وتحطم أعصابي وأعصابك ؟ .. أم نجعل البساط أحمديا ونتكلم عما يعن لي من خواطر من طراز ( خالتي جات لنا لما كان عندي تسع سنين ، وعملت لنا مربة طماطم بس كان طعمها مقرف ) ؟ ..
أعتقد بما أعرفه عنك أنك تفضل الدراسات الصارمة المملة ، ولهذا سأختار الحل الآخر !
منذ عرفت أن هناك في العالم شيئا اسمه حب ، وأنا أربطه بالرعب أو الخوف أو الترقب ، نحن نقدر انفسنا ونرى أننا نستحق أن نحب . تلك هي الفكرة التي تؤرقنا منذ كنا في المهد .
عندما نكبر نخشى أن تكون فكرتنا عن أنفسنا خاطئة .. ربما نحن غير جديرين بالحب .. ربما نحن أقبح أو أسمج أو أغبى او اضعف من أن نروق للآخرين ، وهكذا يكون اللقاء الأول مرعبا قدر ما هو ممتع .
الاختبار الأول لك في عيني من ؟ .. في عيني الإنسان الوحيد الذي يهمك رأيه في الكون كله .
ليت صوتي أجمل .. ليت أنفي أصغر .. ليت قامتي أطول .. ليتني .. ليتني شخص آخر .
والحقيقة التي تعلمتها مع الوقت هي أن الطرف الآخر لو لاحظ عيوبك فهو لا يحبك أبدا ولا داعي لإضاعة الوقت .. كما يقول ( أحمد رجب ) : " الحب عندما يأتي يحمل معه نظارة وكمامة انف تجعلانك عاجزا عن رؤية عيوب من تحب " .
هكذا لو أحبك الطرف الآخر فهو سيرى في برابيرك – عدم المؤاخذة - لمسة فروسية أنيقة ، وفي رائحة عرقك طابعا رجوليا محببا .
في شبابي الأول أحببت فتاة لها أنف ضخم نوعا ما ولا تكف عن استعمال المنديل ومصابة بالزكام طيلة الوقت ، وبصراحة صار من الصعب أن أرى جمالاً في آية فتاة لا تحمل بعض هذه الصفات ( وهذا ليس مزاحا على فكرة ) ..
باختصار .. لا داعي للرعب .. إن كان الطرف الآخر يحبك فعلا فلسوف يحبك كما أنت .. إن لم يكن يحبك فلا تتعب نفسك حتى لو صرت ( براد بيت ) نفسه .
برغم هذا الرأي يجتمع الشاعر السوداني العبقري ( الهادي آدم ) مع ( عبد الوهاب ) و ( أم كلثوم ) ليقولوا : اغدا القاك ؟! يا خوف فؤادي من غدي يا لشوقي واحتراقي بانتظار الموعد !
آه كم أخشى غدي هذا ، وارحوه اقترابا كنت أستدنيه ، لكن هبته لما أهابا يا للروعة ! ..
هذا شاعر .. والله العظيم شاعر .. الشعر ما أشعر و ( قشعر ) .. حتى لو كنت ( كينج كونج ) نفسه وكنت أنت - يا آنستي الرقيقة - أم سحلول ، فلا بد أن لحظة مماثلة مرت بك في حياتك شعرت فيها بالشيء ذاته .
عندي قصة كتبتها وانا في التاسعة عشرة من عمري اسمها ( لقاء رهيب ) ، واعتقد انها ممتعة ، وهي تلخص هذا الموقف بالضبط ، عرضت على محمد سامي أن أنشرها هنا لتفي بغرض الموضوع ، لكن الشرر انبعث من عينه وقال في حزم الناشرين : " باقول لك مقال مش قصة " .. هكذا تراجعت وقلت له : " هيء هيء .. انا بس كنت باهزر " .
ثم يأتي الجزء الثاني من الرعب : ماذا لو تخلى عني من احب ؟ ... لماذا لم تكن ابتسامته كما عهدتها ؟ .. ثمة شبح خافت خيم على هذه الابتسامة فعكرها .. لماذا ؟.
هكذا تقضي الليالي قلقا .. في الحقيقة أنت خائف .. خائف جدا .
الحب والرعب ؟ .. كلمني أنا عن الحب والرعب من الناحية الأدبية الصرفة ، فالرومانسية مدرسة متشعبة تنضوي تحت عنوان واحد هو الهروب من الواقع .. الهروب من دخان المصنع الكئيب أيام الثورة الصناعية في أوروبا ، ومن عصر العقل .
هنا تلد المدرسة الرومانسية مدرسة صغيرة محندقة مدرسة الرعب هي القوطي . وهنا أيضا يجتمع الرعب والحب معا .. مدام ( ماري شيللي ) هي زوجة ( شيللي ) الشاعر البريطاني العظيم . عندما تكتب قصة تكتب عن الدكتور ( فرانكنشتاين ) الذي أعاد الحياة إلى جثة بالصواعق الكهربية .
القصة نفسها تثير الكثير من التساؤلات .. الوحش كان وديعا مطيعا فلماذا توحش وجن ؟ ..
لأنه حرم من الحب .. حرم من حب الأب الذي طرده وحرم من حب الأنثى ، وهكذا قرر أن يكون مرعبا وأن يجعل الجميع تعساء ..
إن تحول ذروة الحب إلى ذروة المقت شيء مألوف ، ولسوف تجد الحرمان من الحب فقرة ثابتة في حياة كل سفاح ، اما قصص العشاق الذين يحبط حبهم فيغرسون سكينا في صدر الحبيبة أو يرشون زجاجة ماء نار في وجهها ( مش عارف بيجيبوا مية النار منين ) فتتكرر في صفحة الحوادث بإلحاح غريب .
لهذا أجد مقولة ( اللي يحب ما يكرهش ) التي ترددها النساء العجائز خالية من المعنى وجديرة بهن فعلا .
نعود إلى الأدب العالمي حيث نرى تحول ذروة الحب إلى الرعب مع ( هيئكليف ) بطل " مرتفعات وذرنج " .
( اميلي برونتي ) نفسها عانس بريطانية حرمت من الحب ، وعاملت نفسها بقسوة غير عادية .. لقد انعكس جزء من هذا الجو المجنون الأسود المدلهم في كتاباتها ، ولهذا يعجب كل من يقرأ ( مرتفعات وذرنج ) بعبقرية المؤلفة لكنه لا يكتم أنه شعر بجهامة واختناق .
إن المحب غير المستقر نفسيا الذي فقد حبه يغدو خطرا داهما .
التعلق الزائد عن الحد يخيف ، وهناك لحظة يدرك فيها المحبوب ان الأمر زائد ومقلق ويحاول أن يتحرر ، عندها .........
ثمة فيلم مخيف حقا برغم عدم شهرته هو ( اعزف ميستي من أجلي ) عن فتاة وحيدة معقدة وقعت في غرام مذيع التلفزيون الوسيم ( كلينت إيستوود ) - حتة واحدة - وحاصرته باتصالاتها وطلبها للحن معين هو ( ميستي ) .
بالطبع قرر المذيع أن يخوض معها مغامرة عابرة .. ( حكاية ليلة واحدة ) كما يقول الأمريكان ، وانتهى الأمر وما نعطلكيش بأه .. لكن بالنسبة للفتاة لا شيء ينتهي بسهولة .. إنها تطارده وتحيل حياته جحيما وتقتل من يحبهم .
بالواقع تبدو كانها فوق الواقع ذاته .. موجودة في كل مكان .. وترى كل شيء ..
هناك قصة قصيرة مفزعة لـ ( ستيفن كنج ) اسمها " اعرف ما تريدين " عن الفتاة التي يلاحقها عاشق ولهان . الغريب أنه يحقق لها كل شيء تتمناه في أية لحظة وقبل أن تتكلم .
في البداية تشعر بالامتنان ثم بالذعر .
طبعا يتضح انه رجل شيطاني ( موش تمام ) ويمارس سحر الفودو .
عام 1981 كتبت قصيدة حول هذا المعنى تقول في مطلعها :
لقد قررت ان أهواك ..
لا مأوى .. ولا مهرب !
ومهما صحت ، من ينجيك
مني حينما ارغب ؟
ومهما قلت او قاومت او حاولت أن تنسي ..
فلن انسى ... ولا مهرب !!
ومهما لذت بالإطراق ..
أو بجدار إيماءة ..
ومهما التف منك الجيد ..
او همهمت مستاءة .. فلا جدوى .
أنا في كل منعطف ..
أنا في رقصة الأحلام ..
بل في كل إغفاءة .. !
طبعا كلام مرعب وينشف الدم ، لهذا لم تقرأ اية فتاة هذه القصيدة بالطبع إلا وانفجرت في البكاء وذهب أهلها لتحرير محضر عدم تعد لي في القسم .
دعك من أنها هلاوس شعراء طبعا ، فهذا كلام جدير بأن يكتبه ( هولاكو ) وليس أنا . لكني كنت فاقدا التحكم في حنفية العواطف داخلي ، خاصة مع رؤيتها لا تكف عن التمخط في منديلها الورقي بسبب التهاب الجيوب الأنفية ..
كان هذا أقوى مني ..
فكرة مصاص الدماء المحروم من الحب عبر العصور وعبر القرون تتكرر كثيرا جدا ، وقد وضعت ( أن رايس ) يدها عليها وسجلتها في الشهر العقاري كما يبدو .
كلنا رأى فيلم ( لقاء مع مصاص الدماء ) ، وبعضنا قرأ ( يوميات مصاص الدماء ) . هذه فكرة تروق للغربيين دوما ، وإن كانت لا تروق لي بصراحة لأني لا أملك المزاج الرائق للشعور بأحاسيس مصاص الدماء والتوجع معه .
مصاص الدماء يجب أن يكون كابوسيا مرعبا ووغذا فلا تحاول إضفاء سمات بشرية رقيقة عليه من فضلك .
هناك صورة أخرى للحب والرعب هي ( حب الرعب ) .. هذا مبحث تكلمنا عنه بشيء من الإسهاب في سلاسلنا ( حاسس إن العقاد هو اللي بيتكلم .. قشطة عليا ) ، ولئن كان هذا أسخط بعض خصومنا علينا ، فإننا نحمد الله على أننا أسخطناهم ولا نسأله ان يرد سخطهم علينا .
الرعب ذو جاذبية فائقة كما تعلم ، ولا أرى اسما آخر لهذا الولع الشديد بأن نخاف إلا الحب ..
نحن نحب أن نخاف .. نحب أن نخاف من شيء نعرف جيدا أنه لن يقتلنا أو يبتر أطرافنا .
الصورة الأخيرة للحب والرعب هي ... ما هذا ؟ ..
لقد طال المقال فعلا .. الأخ ( محمد سامي ) ينظر لي نظرة حازمة ويداعب شاربه .
هناك نقطة مهمة جدا لم أتطرق لها بعد ، لكني عاجز عن تذكرها ..
( محمد سامي ) بدأ يطلق الشرر من عينيه فعلا ، وهذا جزء آخر من الحب والرعب ..
أن تصاب بالرعب وأنت تكتب مقالاً عن الحب .. . " خد راحتك يا دكتور .. حتى لو خلصت المقال ده سنة 2014 برضه احنا اخواتك الصغيرين " يقولها بلهجة تدل بلا شك على أنه لا مناص لي من إنهاء المقال هنا والآن .. لو تذكرت شيئا آخر سأتصل بالقراء واحدا واحدا لأخبره بما نسيته .. يا الله سلام ..
دكتور أحمد خالد توفيق
من كتاب ٧ وجوه للحب