مشروع جريمة
لي صديق كان زميلي أيام الدراسة الثانوية ثـم افتـرقنا وألقت بنا الدنيا كل واحد في طريق ثم عدنا بعد سنوات لنلتقي .. وأصبح من عادته كلما لقيني أن يشكو .. وأصبح من عادتي أن أستمع .. وأنظر إلى وجهه الشاحب وشفتيه المزمومتين دائما كأنما على ثأر بايت .. وشكواه دائما هي .. هي .. لا تتغير .. حتى نبـراته .. حتـى كلماته التي يقولها وهو يطحن أضراسه .. أريد أن أحيا كما يحيا السعداء الأغنياء .. لا تقل لي إن معظم الأغنياء غير سعداء .. لا تحاول أن تفلسف لى الفقـر .. وتشوه لى الغنى .. أنا عارف كلامكم يـا أدباء ، أريد أن أكون غنيا .. ولست راضيا بالمرة عن نفسي .. وعن وضعي الحـالي .. عايز فلوس .. فلوس .. عايز يكون عندي عربية وشقة فيها بوتاجاز وثلاجة وبيك أب وريكوردر .. عـايز أسكن في عمـارة فيهـا أسانسير .. ويكون عندي على الأقل خمس بدل جديدة .. عـايز أدخل السينما وأقعد بنوار مش صالة .. عايز أدخل الكباريهات والبارات .. عايز أعرف إيه المـوجود داخل هذه العلب التي قرأت عنها حتى امتلأت رأسي كلامـا .. عايز أشوف بعيني وأسمع بودني .. عايز أعيش .. أعيش .. أنا عايش في حرمان .. اوعى تقوللي ربنا عايز کده .. ربنا مش عايز كده .. ربنا عايزني أعيش وخلقني عشان أعيش وأتحـرك وأشعر وألمس وأحس بكل حاجة .. لقد كفرت بالمثل العليـا .. كفـرت بـالأخلاق .. والفضـائل والمبادئ .. كلها كلمات جوفاء لا معنى لها عنـدي .. الحقيقـة الوحيدة التي أعرفها أني فقير .. ليس لي فدان ترك ولا بقـرة شرك.. كل أملاكي هي ماهيتي .. ثلاثون جنيها فقط .. موظف صغير حقير .. والدي متوفى ويشاركني في هذا المبلـغ أم وثلاثة إخوة .. وكلهم سعداء لأنهم لا يشعرون .. أما أنا فأشعر أشعر دائما أني ميت .. أشعر أني أتمنى أشياء لا أستطيع أن أحصل عليها .. وأشعر في لحظات أنى على وشك أن أكون قاتلا أو لصا أوسفاحا أو محتالا أو مهرب مخدرات ..
في حلقي مرارة لا تطفئها إلا الخيالات المريضة .. لا تقل لي ابحث عن عمل آخر أو اشتغل بالتجارة .. أين الوقت لكل هذا وعملي في المطار .. وسكني بشبرا ، وخروجي كل يوم في السابعة صباحا وعودتي في الخامسة بعـد الظهر مرهقا .. متعبا .. لا أصلح لشيء ..
لا تقل لي هناك ملايين مثلك وأقل منك وسعداء .. هذا صحيح .. أنا أعلم هذا ولكنهم خلقوا هكذا .. شـعورهم هكذا .. ولكني أنا شيء آخر .. وشعوري شيء آخر .. والمهم هو أنا .. أنا ..
ومن عادته أن يكرر أنا .. أنا .. عدة مرات وهو شارد .. ينـظر إليّ بشفتيه المزمومتين كأنه يحاسبني .. وكأني أنا المسؤول عن عذابه .. ثم يمضي إلى حاله وأمضي أنا إلى حالي .. ولكن شبحه يظل يلاحقني .. شفتاه المزمومتان .. ونبراته الحادة .. وكلماته التي ينطقها في مرارة ويضغطها بين أسنانه مرة .. بعد مرة .. أنا .. أنا .. نعم هنا العذاب كله .. في هذه الكلمة .. أنا .. ليس عذابه في ظروفه وفقره وإيراده الصغير .. وإنما عذابه في نفسه هو ..
هناك ملايين الفقراء يعيشون مثله وأقل منه ولا يحسون بهذه الاحساسات .. إن عذابه في عناصر شخصيته التي تتأجج إلى جوار بعضها ويشعل كل واحد منها الآخر .. رغبة حادة بلا عقل .. وشهوة بلا ضابط .. وأحلام بلا وسائل وأمنيات ملحة وإرادة عقيمة .. وإحساسات مرهفة وأفق ضيق .. ولهفة مشبوهة .. وصبر نافد .. وكلها تصطدم في النهاية وتتحول إلى أسباب للشقاء والحقد .. ولا تتحول إلى عمل وفعالية أبدا ..
وهو بعوده النحيل ووجهـه الشاحب الهضيم يبدو دائما كمشروع جريمة .. وأنا لا أؤمن بأن الانسان عبد للظروف وأنه مسير ولا اختيار له إطلاقا ..
ظروف الفقر والجهل والمرض والتربية السيئة لا تحتم الفشل في نظري .. بل هي أحيانا تؤدي إلى النبوغ والخير والعبقـرية .. لأن العامل الحاسم هو دائما الظرف الداخلي .. الظرف النفسي .. وأخطر ظروف الجريمة ، هو المجرم نفسه .. وأخطر دوافـع الجريمة هو المجرم نفسه .. هي اللحظة الحاسمة التـي تصـل فيها شخصيته لدرجة الغليان وتفور عناصرها لتفقده الصواب . هذه العملية الداخلية المستترة في نفـوسنا النيـة ..
والاحساس .. والانفعـال .. والتصـور .. والتـردد .. والعـزم .. والاندفاع .. هي مفتاح مصيرنا ..
وطالما سألت نفسي .. هل الانسان يستطيع السيطرة على هذه العملية .. هل يستطيع صاحبي أن يحكم غضبه .. ويسـوس ويقود ثورته .. ويتحكم في انفعالاته .. ويتعقل حقده .. وحسده .
أعتقد أنه يستطيع .. أعتقد أن حبل الحرية ممدود في نفوسنا وأننـا نستطيع أن نلوذ به دائما .. يد الله تمد لنا هذا الحبل دائما ولكنا لا نراها ..
في أعماقنا طاقة ضوء نستطيع أن نطل منها ونستنجد .. لسنا حجرات مغلقة مظلمة .. تحتوي على الظروف . وتعكس مؤثرات البيئة فقط بدون حرية وبدون تصرف وبدون إرادة .. ولسنا حفراً تتجمع فيها الظروف والفقر والجهل والمـرض والأبواب المسدودة ..
هناك الحرية دائما في قاع المشكلة .. وهناك يد الله ورحمته ..
لسنا كعيدان القش تحملنا الأمواج .. ويقذف بنا التيار .. وإنما نحن نستطيع أن نسير ضد الريح .. ونسبح ضد التيار .. وضد الظروف غير المواتية أحيانا .
إن الشجرة وهي نوع منحط من أنواع الحياة .. تنمـو إلـى فوق ضد الجاذبية الأرضية.. والعصارة تجرى فيها إلى فوق ضد الجاذبية الأرضية .. وضد قوانين السوائل والضغط الجـوي .. وضد الظروف الفيزيائية .. وهي تقف صلبة سامقة في وجه الريح . لا تنحنى للطبيعة .. وهي شجرة عاجزة عمياء مزروعة في الأرض مقيدة بجذورها .. فما بال الانسان سيد الكائنات الحية جميعها .. وله ساقان يجري بهما .. وعينان يبصر بهما .. وعقل يفكر به .. وقلب يحس به..
أنا لا أصدق أبدا خرافة المصير المحتوم .. والظروف التـي تضرب على الناس الذلة والمسكنة .. فلا يبقى لهم إلا الشكوى والجريمة .. والسباب .. هناك حل دائما .. هناك مخرج .. طالما أن هناك إيمان والمشكلة ليست الظروف .. الظروف تتشابه في العائلة الواحدة .. ومع هذا يفترق الأخوة على طرق المصير .. واحد ينبغ .. والآخر يرتكب جريمة قتـل . والثالث .. يشحذ .. والرابع يدمن المخدرات..
المشكلة هي الانسان .. الانسان هو الظرف الحاسم .. والعامل المهـم في الحيـاة ..وحينما تنسد كل الأبواب أمامه يظل هنـاك بـاب مفتـوح في داخله .. هو الباب المفتوح على الرحمة الالهية .. وحينما يصرخ من اليأس .. فلأنه أغلق بيـده هـذا البـاب أيضا .. وأعطى ظهره لربه وخالقه...وأنا أعتقد أن صاحبي يستطيع أن يفعل شيئا .. يستطيع أن يكف عن الشروع في جريمة ويبدأ في الشروع في عمل آخر ناجح ..
من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود