لغز الصحة والمرض
ما نحبه في البيت والغرفة والفراش والمـدفأة ، ومـا نخلـده بالأشعار والأغاني وما نشتاق إليه في ليالي الغـربة .. ليس هو البيت ولا الغرفة ولا الفراش ولا المدفأة ، وإنمـا مشـاعرنا وذكرياتنا التي نسجت نفسها حول هذه الجمادات وبعثت فيهـا نبض الحياة وجعلت منها مخلوقات تحب وتفتقد .
إننا نحب عرق ايدينا في مفرش الكانفاه .. وعطر أنفاسنا على الستائر .. ورائحة تبغنا على الوسائد القديمة .
وحينما نحتفل بالماضي نحن في الواقع نحتفل بـالحاضر دون أن ندري .. فهذه اللحظات الماضية التي أحببنـاها ظللنـا نجرجرها معنا كل يوم فأصبحت معنا حاضرا مستمرا ، إنـه الحب الذي خلق من الجمادات أحياء .
والحب جعل من الماضي حاضرا شاخصا ماثلا في الشعور . وإذا كنا نقرأ أن المسيح كان يشفي بـالحب .. فليس فيمـا نقرأ مبالغة .. بل هي حقيقة علمية .. فالحقد والكراهية والحسد والبغضاء ترفع ضغط الـدم ، وتحدث جفافا واضطرابات خطيرة في الغدد الصماء .. وعسر دائم في الهضم والامتصاص والتمثيل الغذائي .. وأرقا وشرودا .. والنفور والاشمئزاز يؤدى إلى أمراض الحساسية .. والحساسية ذاتها نوع من أنواع النفور .. نفور الجسم مـن مواد غريبة عليه .. واليأس يؤدي إلى انخفاض الكورتيزون في الدم .. والغضب يؤدى إلى ارتفاع الادرينالين والثيروكسين في الدم بنسب كبيرة ، وإذا استسلم الانسان لـزوابع الغضب والقلـق والأرق واليأس أصبح فريسة سهلة لقرحة المعدة والسـكر وتقلص القولون وأمراض الغدة الدرقية والذبحة ، وهي أمـراض لا علاج لها إلا المحبة والتفاؤل والتسامح وطيبة القلب .. ألا تشمت ولا تكره ولا تحقد ولا تحسـد ولا تيـأس ولا تتشاءم ، وسوف تلمس بنفسك النتيجة المذهلة ..
سوف ترى أنك يمكن أن تشفى من أمراضك بالفعل ..
إنها تجربة شـاقة جرب سوف تحتاج منك إلى مجاهدات مستمرة ودائبة مع النفس ربما لمدى سنين وسنين .. وسوف يستلزم ذلك أن تظل في حالة حرب معلنة مع أنانيتك وطمعك .. حرب يشترك فيها العقل والعـزم والايمـان والاصرار والصبر والمثابرة والالهام .
وأشق الحروب هي حرب الانسان مع نفسه .. وما أكثر القواد الذين استطاعوا أن يحكموا شعوبهم وعجزوا عن حكم أنفسهم وما أسهل أن تسوس الجيوش ، وما أصعب أن تسوس نفسك ..
ولا يكفي أن تقول .. من الغد لن أبغض أحـدا ولن أحسـد أحدا .. وتظن بذلك أن المشكلة انتهت .. فقليل من الصراحة مع نفسك سوف تكشف لك أنك تكذب وأنـك تقـول بلسـانك ما لا تحس بقلبك ..
والانتصار على الأنانية ليس معركة يوم وإنما معـركة عمـر وحياة .. ولكن ثمار المحبة تستحق كفاح العمر .. وإذا قالوا لك إن معجزة الحب تستطيع أن تشـفـى مـن الأمراض فما يقولونه يمكن أن يكون علميا ..
فبالحب يحل الانسجام والنظام في الجسد والروح ، ومـا الصحة إلا حالة الانسجام التام والنظام في الجسـد ، وإذا كان الحب لم يشف أحدا إلى الآن فلأننا لم نتعلم بعـد كيف نحب .. الرجل يحب امرأة وينتحر من أجلها ويقتل ويختلس ويرتشى ويرتكب جريمة ويظن أن هذا هو منتهى الحب وهو لم يدرك بعد أن الحب هو أن يحب الكل .. أن ينظر إلى كل طفل على أنه ابنه وكل كهل على أنه أبوه .. وأن يكون حبه لامرأته سببا يحب من أجله العالم كله ويأخذه بالحضن .
وبالنسبة لعالم اليوم ، عالم فيتنام والقنبلة الذرية والصاروخ والدبابة والدولار .. الكلام في هذا اللون مـن الحـب هـذيان .. ويوجا .. وتخريف .. ولهذا فالمرض في هذا العالم فريضة .. والعذاب ضريبة واجبة لهذه القلوب التي تطفح بالكراهية .. لا بد أن نمرض لأن العالم مريض وعلاقاته مريضة ..
والذبحة والجلطة والضغط والربو أمراض نفسية في حقيقتها .. أمراض إنسان يطحن أضراسه غيظا ويعض علـى نـواجذه ندما ويستجدى النوم بالمنومات .. ولا يستطيع النوم لأن أطماعه تحاصره .. ولأنه جوعان مهما شبع .. فقير مهما اغتنى...إنسان يفرق بين أبنائه لأن بعضهم أبيض وبعضهم أسود إنسان يتسلق على إنسان ويتسلق عليه إنسان في مجتمع طاقته المحركة صراع الطبقات ..
وفي مثل هذا العالم الحب مستحيل لأن كل واحـد يضـع أصبعه على الزناد .. كل واحد في حالة توتر .. وهذا التقلص المستمر هو المرض .. وهو الذي يظهر في ألف مرض ومرض .. من تسويس الأسنان إلى السرطان ..
وإذا قالوا لك إن سبب المرض ميكروب ، قـل لـهـم لمـاذا لا نمرض جميعا بالسل مع أننا نستنشق كلنا ميكروب السـل في التراب كل يوم ويدخل إلى رئاتنا في مساواة .. لأن بعضنا يقاوم وبعضنا لا يقاوم .. وما هي المقاومة سوى أن تكون الحالة السوية للجسم حالة العمل في انسجام بين كل الخلايا والغـدد والأعصـاب وهي حالة ترتد في النهاية إلى صورة من صور الائتلاف الكامل بين النفس والجسد ولهذا يمكن أن يكون مرض السل مرضا نفسيا ..
كما يمكن أن تعاودك الانفلوانزا بكثرة لأسباب نفسية .. مع أن العلم يؤكد أن سبب السل هو ميكروب « باسيل کوخ » وسبب الانفلوانزا هو الفيروس » .. ولكنها ليست أسبابا قاطعة لأن العدوى بها لا تحدث المرض إلا بشرط وجـود القابلية .. والقابلية حالة نفسية كما أنها حالة جسدية ..
وأمراض كالاكزيما أمكن إحداثها بـالايحاء أثنـاء التنـويم المغنطيسي . بل إن التهابا كالتهاب الحرق في الجلد يمكن إحـداثه بنفس الطريقة بدون نار وبدون مادة كاوية ، لأن النفس يمكن أن تحرق كالنار وتكوى كالمادة الكاوية .. ولأن النفس يمكن أن تكون أخبث من الميكروب .. والحالة النفسية يمكن أن تكون سببا في الحمـى والصـداع والضغط والسكر والروماتزم والسرطان .. وإذا قرأت أن الحب يشفى وأن المسيح كان يشفى بالحب .. فتأكد أنك تقرأ حقيقة علمية ..
من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود