خنزير طيب جدا
الغرور دائما هو القاعدة في هذا الزمان .. كل واحد يعتقد في قرارة نفسه أنه رجل صالح وليس أقـرب منه إلى الله ، وربما زاد على ذلك بأنه ضحية لهذا العصر الشرير وأنه مظلوم ومجنى عليه أكل الجميع حقـه وهضـمـوا وجـوده وأخذوا مكانه .. وأنه في القاع بينما يجب أن يكون في القمة وفى المؤخرة بينما وضعه الصحيح هو المقدمة ..
وكل هذا لأنه طيب وابن حلال وحسن النية يعامل الله ولا يعامل الناس ويسابق في فعل الخيرات .. وربما كان هذا المتكلم إيراده الشهري ألف جنيه ، وعلى بابه عربة ملاكي .
ولكنه سوف يسارع فيقول لك .. إنه يحمدالله علـى هذه الفيات الكحيانة ولا يفكر في اقتناء شفروليه مثـل غيـره .. وإنه يشكر الله على مرتبه ويقنع بدخله فلا يمد يده إلى مال عام ولا يمس الحرام وأعوذ بالله من الحرام وأكل الحرام ثم يقبـل یده ظهرا لبطن على أن الله خلقه نقي القلب حي الضمير عفيف اليد .. وأن الحياة بالطيب أحسن فلا شيء يدوم في هذه الدنيا غير الأعمال الطيبة ..
وربما يكون من الطريف جدا أن نقرأ على هذا الرجل الطيب الذي هو كل الناس ، فكل الناس في هذا الزمان يظنون أنهـم طيبون جدا ..
أقول ربما يكون من الطريف أن نقرأ بضعة سطور من كتاب الغزالي .. إحياء علوم الدين .. عـن طبـاع النـاس الصالحين .. وماذا كانوا يفعلون .. وكيف كانوا يعيشون ، لنعرف أين مكانه في درجات الصلاح .
يقول الغزالي عن المتصوف الصالح ( ابو سليمان الداراني ) كان أبو سليمان يقول إن الملح ، شهوة وترف مذموم ، لأنـه زيادة على الخبز وكل ما زاد على الخبز فهو شهوة ..
ويروى عنه أنه اشتهى ذات مساء رغيفا ساخنا بملح فلما جاءوه به عض منه عضة ثم طرحه وشرع يبكى ويغمغم بين دموعه .. عجلت إلى شهوتی بعد طول المجاهدة واشقوتي .. التوبة .. التـوبة .. ومـن ذلك اليوم لم يره أحد يمس الملح قط ..
وعاش المسيح بلا زوجة وبلا ولد وبلا بيت وبلا فراش لا يملك إلا ثوبا واحدا وكان يقول لأصحابه لا تحملوا جرابا للزاد .. وكان شعاره خبزنا كفافنا كل يوم ..
ويبدو أن العالم تغير تغيرا كبيرا جدا منذ أيام الغزالي .. فها هو ديجول يقول في إحدى خطبه للشعب الفـرنسي المسيحي .. لا أفهم كيف أحكم شعبا يصنع مائة وستة وثلاثين صنفا مـن الجبن .
وهنا في قلب القاهرة وفي أفقر مخبز سوف تعجب من عـدد الأصناف التي تخرج من القمح وحده .. الكعك والتورتة والجاتوه والباتون ساليه والكرواسون والبسكوت والرقاق والفطير والبيتي فور والمكرونة .. وأم علي والسميط ، والخشاف والكسكسي وسـد الحنك والعصيدة والعيش البلـدى والعيش الشـامي والعيش الأسود والعيش الأبيض والقراقيش .. بل إن المكرونة وحـدها يصنع منها ألف صنف .. إلى هذه الدرجة ينشغل هذا الانسان الطيب ببطنه .. وينفـق الوقت في التصنيف والتأليف ليشبع شهوة لن تشبع أبدا ..
وإنه لأمر طبيعي جدا أن الذي يأكل مائة وستة وثلاثين صنفا من الجبن لا يمكن بداهة أن يقنع بزوجة واحدة ، ولا بد أن يحاول أن يذوق زوجة جاره وزوجة صاحبه ، ويصنف لنفسـه مائدة من ألف صنف .. وحينما يكتفى بعشر خليلات سوف يعتقد أنه طيب جدا وشديد الزهد في الدنيا ، ومـن أهـل الصـلاح والفلاح ..
وبصرف النظر عن حكم الدين مسيحيا أو إسلاميا على مثل هذا الرجل ، فإن حكم الحضارة وحكم العقـل أن مثـل هـذا الانسان ساقط وأنه مستهلك يأخذ ولا يعطي ولن يجـد الـوقت ليعطي حتى ولو فكر في أي عطاء .. لأن أي إنتـاج أو عـطاء سوف يحتاج إلى الوقت والتفرغ وجمع الهمة وتركيز الـذهن وانقطاع القلب .. ومثل هذا الانسان بين مائة وستة وثلاثين صنفا من الجبن وألف ابتكار من ابتكارات المطاحن والمخابز وألف امرأة وألف مستحضر من مستحضرات كريستيان ديوار وعشرات الأفلام والسهرات الهلس كل ليلـة وعشرات البـرامج التليفزيونية .
مثل هذا الانسان لن يبقـى منـه خيـر لنفسـه ولا للآخرين .. هذا الانسان قتل نفسه مع سبق الاصرار والعمد والترصد .. وآثر الموت السريع اللذيذ محترقا بشهوته ..
إنه مرتكب لجريمة تبديد .. تبديد للحياة .. ولكن التبديد هذه المرة تبديد كبير . إنه تبـديد للحضـارة والتاريخ .. إنه تبديد فردي وتبديد عائلي وتبديد اجتماعی .. الجوع .. والنهم .. والشره .. والشبق .
لم يبق لـلانسان عقـل ليفكر أو يتأمل في أي شيء ، فهو يأكل حتى يشبع ويشرب حتى الانفجار ثم يتمدد كثور ليصحوا سعرانا من جديد .. وكلما نام السعار وفتر الاوار أيقظته الفاترينات والاعـلانات والأفيشات وأقراص فتح الشهية وحبوب الهضم وحقن القـرود التي تعيد الشيخ إلى شبابه .
ونتيجة الشبع والنوم هي البلادة ثم القسـوة .. فنـرى ذلك الخنزير الآدمى الشبعان يمر إلى جوار الجـوعان العـريان فلا يشعر به ، لأنه مشغول بما يتجدد من شهواته كل لحظة... ذلك فهو يربت بيده على بطنه الممتلئة ويشعر بالرضا عن نفسه ، وبأنه طيب وصالح ولم يؤذ أحدا وربما زار الكنيسة في الأعياد ووضع قرشا في صندوق النذور وربما صام رمضـان وأكل فيه أكثر من كل شهر وتمتع فيه بتصانيف جـديدة مثـل اللوز والجوز والقمر الدين والكنافة والقطايف والمشمشية .. بـل إن نفس هذه العقلية هي التي حولت شهر الصيام إلى شـهر أكل .
وإحصائية بسيطة يمكن أن تثبت لنا أن استهلاك اللحوم في شهر الصوم يتضاعف كمـا يتضـاعف استهلاك الـطرشي والمخللات لتساعد على البلع والزلط واللهط .
ونتيجة هذا الزلط واللهط والتسمين والتزغيط المستمر هـي أرطال زيادة من الشحم واللحم وأمراض كالنقرس وضغط الـدم والسكر والذبحة والكلية والكبد والمصران الغليظ ثـم تسـويس الأسنان المبكر من فرط لين الأطعمة ..
ولكن كما قلت هذا الخنزير طيب جدا ، وكلما أصابته نـوية الذبحة قال ـ يارب .. يالطيف .. رحمتك .. سترك .. وربمـا رسـم الصليب وتمتم .. أبانا الذي في السموات .. أو صلى ركعتين .. أو وزع صينية الكنافة التي لن يأكلها حسنة على البوابين ..
ولأن هذا العصر هو عصر خنازير طيبين من هذا النوع فنحن نرى فيه الناس تموت من الجوع في بلد مثل الهند ، ويموت من الشبع الكثرة الكثيرة من البلاد الغنية .. دون أن يحرك أحد أصبعا .
كما نرى الجهل لدرجة الأمية الكاملة ، والعلـم لـدرجة الصعود إلى القمر وإطلاق الصواريخ في مدارات في الفضـاء .. دون أن يتحرك العلم ليعطي الجهل أو يتحرك الشبع ليشـبع الجوع .. بل قد يتحد الشبعانون ليقاتلوا الجياع لأن الشبعانين عندهم وفرة السلاح كما أن عندهم وفرة الخبز .. والجياع ليس عندهم شيء ..
ههم.ز- لكن كما قلت هذا الانسان الخنزير طيب جدا .. وهو يعتقـد أن الله طيب جدا مثله ولهذا فسوف يدخل كل الناس الجنـة .. وهو يقول لك .. هل من المعقول أن يضـع الله رأسـه بـرأسنا ويحاسبنا على كلام قلناه وأفعال فعلناها . ونحـن بـالنسبة لله ولعظمة الله كالنمل أو ذرات التـراب أو ذرات الهبـاء .. غيـر معقول .. إن الله كبير جدا .. أكبر من أن يعذبنا ، وهو يتصور أن هذه الثقة بالله نوع من الايمان الرفيع .. وينسى أنه بهذا التصور الأبله يطالب الله بالظلم وبأن يسـوي بين الأسود والأبيض ويجعل الظالم كالمظلوم والقاتل كالقتيل في قوانينه .. ولو أنه درس القليل من الكيمياء والطبيعة لعلم أن قوانين الله لا تسوي بين الذرات وأن كل شيء يتحرك بإحكام من الالكترون الصغير إلى أجرام السماوات العظيمة في توافق مع المنـطق العلمي الدقيق .. وأن الذرات تتحد وتتفاعل مع بعضها حسـب أوزانها الذرية .. مع أن هذه الأوزان مقادير ضئيلة جـدا جـدا جدا .. وإنه باستقراء عجائب هذا الكون ودقـة سيرها وإحكام تطورها . فإن العقل ليصرخ .. بين يدى هذه القدرة .. لا يمكن أن يفلت ظالم .. ولا أن يهرب قاتل أخطأته قوانين الأرض ..
يقول هذا عقل تأمل وأدمن التأمل .. أما العقول التي أصابها الشبع والخمول وخيمت عليها بلادة الخنازير .. فإنها تتصور آخرة خنزيرية أو لا تتصور بعثا وآخرة على الاطلاق .. ويقول الواحد في بلادة شديدة .. وهل يمكن أن يبعث ميت من عدم .. وهم يتصورون أن ينقل جراح مثل الدكتور برنار قلب رجل ميت ويبعثه حيـا في صدر رجـل آخـر ولا يتصورون من الذي خلق الدكتور برنار ومن الذي خلق الدنيا كلها معجزة أكبر ..
ولكن في عصر الكريم شانتيه أصبح التفكير الـديني مـوضة قديمة .. والعلوم الوضعية والعقول الألكترونية أصبحت هي الأصـنام العصرية وهذا نتيجة للكسل والغرور .
الانسان الشبعان أكسل من أن يعيد نظرا . وهو قـد حـول جميع حساباته للآلات الحاسبة والأمخاخ الألكترونية وجلس يرتشف الآيس كريم صودا في تلذذ .
لا وقت عنده ليسأل نفسه تلك الأسئلة المتعبة .. مـن أيـن جئت .. وإلى أين أذهب وماذا بعد المـوت .. ومـاذا قبـل الميلاد .. فهذه كلها متاهات غيبية .. وأمامه ليلة عامرة بالمسرات لا ينبغي أن تضاع في أسئلة تجلب الصداع ..
وبين الموائد الشهية والليالي الحمـراء القرمزية تقضي الخنازير أعمارها فإذا بقى وقت فـإنها تتنـاطـح بـالرؤوس أو بالحوافر أو بالقنابل الذرية حتى الموت .
يموت الشبعان ليشبع أكثر وليجوع الجائع أكثر ..
وينتهى العمر دون جدوى .. ينتهي بجريمة . وتغرب شمس الانسان دون أن يسأل نفسه سـؤالا واحـدا بسيطا .. لماذا أنا هنا ..
من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود