سبب للتردد
الرجل بالرغم من قوته وسطوته وهيلمانه .. غلبان .. إنه قوام على المرأة .. وصي عليهـا .. سابق عليها في الشهادة .. وفى الميراث .. وفي الاعتبار .. إمبراطور على بيتها يحكم فيـه ويعـز ويذل ويهدمه إن شاء بكلمة من فمه .. ولكنه يعلم أن كل هـذه السطوة والسيادة خرافية .. وأنه إمبراطور غلبـان علــى دولـة وهمية من ورق اللعب .. إنه في احتياج إلى المرأة مهما فعل .. وهذا الاحتياج يقلم أظافره ويخلع أنيابه ويروض وحشـيته ويعود به وديعا ذلولا طيعا حانيا على صدر امرأته .. ..
وماذا يجدي الصباح والصراخ والهدير والزئير .. والقلب مـن الداخل يتمسح كالقطة ..
إنه في حاجة الى المرأة ليبني حبا .. في حاجة إليهـا ليبنـي بيتا .. في حاجة إليها ليكون ربا لأسرة .. وهو يدرك هذا الضعف في نفسه .. ويقاومه .. ويحاول الخلاص منه .. فيتخذ من المرأة زميلة أو صـديقة أو عشيقة أو خليلة .. ويتجنب الوقوع في شرك الزواج حتى لا تصبح حـاجته طابع حياته كلها ..
إنه يتجنب الوقوع في الاحتياج الدائم .. بالوقوع في الاحتياج المؤقت يشبعه من وقت لآخر .. بكلمة أو وعـد بـالحب .. أو قبلة .. أو ساعة فراش .. ثم يذهب كل واحد منا إلى حاله .. بدون أمل .. وبدون خيبة أمل .. والخوف الخوف وحده هو الذي يجعله يتـردد .. ويؤخر زواجه سنة بعد أخرى .. الخوف من ضعفه .. والخـوف علـى قوته .. والخوف على أوهامه .. الخوف من ألا يجد الاخلاص .. الخوف من أن يبنى بيته على كذبة .. وماذا هناك أشنع من الأكاذيب .. وماذا هناك أشنع من أن تخونه زوجته .. وتنجب له أولادا من الآخرين ..
وماذا هناك أشنع من أن يكون رب أسرة مـزعومة .. وزوجـا غير ذي موضوع .. ولماذا التعب .. إن الموت في عزوبة ووحدة أفضل وأصدق من زواج اسمي ..
والمرأة تدرك في نفسها هذه القوة .. إنها هي الوحيدة التي تستطيع أن تصنع بيتا .. إنها هي الوحيدة التي تملك رحمـا ينجب الأولاد .. إن خيرها وشرها يصنع واقع البيت .. أما الرجل فـأخطاؤه شفوية لا تترك أثرا .. ومع هذا فهو المسئول .. هو الذي يعمـل ويكدح وينفق ويحمل همها .. ويحمل عارها أيضا .. فالمجتمع يمسح فيه أخطاءها حينما تخطئ .. ويقول عنه إنـه نـاقص الرجولة .. وهي حرة .. بإشارة من رمش عينها .. ونزوة طارئة ومشـوار نصف ساعة بحجة الخياطة أو الكوافير أو طبيب الأسنان .. تستطيع أن تعود حاملا في طفل غير معروف الأصل .. إنها هي وحدها التي تشكل واقع البيت كما تشاء .. بالصدق أو الكذب .. بالحرام أو بالحلال .. والرجل وحده هو الذي يدفع الثمن كاملا رضي أم لم يرض .
إن الزواج مجازفة تقتضي من الرجل كل شجاعته .. إن الرجل يضحى بحريته وراحة باله في سبيل إقـامة بيـت لايعرف مصيره .. وعزاؤه الوحيد .. هو هذا الزعم الخرافي .. بأنه سوف يصبح ربا وسيدا وقواما على أسرة .. وهو في الحقيقـة سوف يصبح عبدا لألف حاجة وحاجة .. وألف طلـب وطلـب وخادما لأصغر فرد في هذه الأسرة .. ولهذا يتردد الرجل في الزواج .. ليس لأنه شاطر .. وليس لأنه ناصح .. ولكن لأنه يعلم أنه خيبان .. ولأنه لايريد أن يحتفـل بخيبته ..
وإذا كان الجيل القديم من البنات كان عنده من وازع الدين والتقاليد ما يعصمه من الزلل والخيانة .. ويجعل منه جيلا كفؤا لحمل مسئولية البيت بشكل يطمئن الرجل .. فإن الجيل الجديد جيل مسعور بالحرية مشغول بالبحث عن حقوقه ومسراته قبـل البحث عن واجباته .. والبنت الجديدة تتحدث عن حقها في المغامرة .. وحقها في أن يكون لها صديق وحبيب .. وعن حقها في السهر .. وفي الرقص وفي دعوة الرجال إلى بيتها .. وفضيلتها الوحيدة .. فضيلة الحب وإختيار الزوج .. فضـيلة قلقة ومبلبلة .. فهي ما زالت تتخبط بين حبها لرجل لا تتزوجه ..وزواجها من رجل لا تحبه .. وهي في اللحظة الحاسمة .. لحـظة اختيار الزوج .. تشك في نفسها .. وفي اختيـارها .. وفى حبهـا .. ولا تعرف .. هل هي اختارت هذا الرجل بالذات لأنها تحبـه حقا .. أم أنها في الحقيقة قد ضاقت بـالقيود في بيت أبيها فأرادت الهروب من هذه القيود عن طريق أية دبلة يقدمها لها أي رجل .. أم هي قد ضاقت بعنوستها وخشيت البوار وخافت أن يفوتها القطار .. فتعلقت بأية عربة ساقتها لها الصدفة ..
وكل هذه البلبلة تتفاقم وتتضح بعد الزواج .. وعلى الرجل أن يواجه هذه البلبلة .. ويتزوج هذه البلبلـة .. ويرهن مصيره في هذا البنك المفلس غير الواثق من عواطفه .. وهذه محنة الرجل .. الامبراطور المزعوم .. والبنت الجديدة تطمئن الرجل بأنها سوف تعمـل وتكافح وتكسب مثله لتشاركه في المعاش .. ولكن الحقيقة أن الخمسين جنيها التي تكسبها المـرأة المكافحة تنفقها على نفسـها ثمنـا للـروج والفسـاتين والمواصلات .. ويبقى البيت في حاجة الى طباخ وخادمة ومرضعة ومربية .. لأن المكافحة تخـرج في الصباح ولا تعـود إلا في المساء .. وإذا عادت في الظهر فإنها تكون مرهقة لا تصلح إلا للنوم .. وبعد القيام من النوم يلزم لها ترفيه طبعا لأنها مكافحة ..
إن تردد الرجل العصرى أمام الزواج .. إذن ليس شطارة .. وليس دوارة .. ولكنه محنة حقيقية .. والبنات من حـوله يـزدنه شعورا بهذه المحنة يوما بعد آخـر .. ويـزلزلن الأرض تحـت قدميه .. الأرض التي يريد أن يبنى عليها بيته .. وليس معنى هذا أن كل النساء خـائنات .. لا أبـدا .. إن الفضيلة ما زالت هي الغالبة .. ولكنها فضيلة حائرة مبلبلة غيـر واثقة من نفسها .. وهي تنقل عدواها إلى الرجل فيفقد الأمـان ويفقد الثقة هو الآخر ..
وسنوات الشباب تمر بسرعة .. وأحلام الرجل في الزواج والاستقرار تتضاءل .. في سن الثلاثين يحلم بزوجة جميلة فاتنة متعلمة من عـائلة محترمة .. ولكن التردد يضيع عليه فرصة بعد أخـرى .. حتى يبلغ الأربعين .. ويفقد غرور الشباب ، فيتنـازل عـن اشـتراطاته .. ويتواضع في أحلامه .. وحسبه في هذه السن أن يعثر على فتـاة مقبولة الشكل .. من عائلة محافظة تقدر الحياة الزوجية .. فإذا تقدم به السن أكثر من هذا فهو يبحث عن فتـاة بهـا عيب لترضى به .
وبطل رواية « وجهان في المرأة » .. وهو مـدرس تقدمت به السن .. يبحث عن فتاة قبيحة .. إمعانا في التواضع .. وهو يفرح حينما يعثر على ماری جوزی . . العاملة العـانس التي فاتها قطار الزواج .. والتي يكلل وجهها أنف كبير مثل أنف سیرانو دى برجراك يطرد العرسان على بعد كيلو متر .. وهو يفرح أكثر حينما يكتشف أنها هادئة وديعـة .. لاتحـب السهر ولا الرقص .. ولا الاختلاط بالشبان .. ويتزوجها وينجب منها ولدين ويعيش في سعادة ..
ولكن المصادفة تقود في طريق البيت طبيبا للتجميل .. وتجرى الزوجة جراحة لتصغير أنفها .. وتنقلب إلى امـرأة فاتنة يتودد إليها الرجال .. وتنقلب جنة البيت في نفس الوقت الى جحيم .. فالزوجة الوديعة الهادئة التي كانت لا تحب السـهر ولا الاختلاط بالشبان أصبحت تمـوت في السهر والاختلاط بالشبان .. وهي في النهاية ترتمی بین ذراعـي عشـيق لتخـون زوجها .. إن فضيلتها تبخرت .. إنها لم تكن فضيلة .. لقد كانت ظـلا مهزوزا لوجه قبيح مشوه .. كانت بلبلة امرأة غيـر واثقـة مـن نفسها ولا من عواطفها .. ويتحطم الرجل .. ويتحطم البيت ..
وهذا الرجل فيه مخاوف كل رجل .. وفيه قلقه وعذابه .. وبحثه عن الاطمئنان في جيل مهزوز .. واستعداده لأن يدفع في سبيل هذا الاطمئنان أي ثمن .. حتى الزواج بعانس قبيحة ..
إن المصيدة التي اصطادت هذا الرجل لم تكن قلم الـروج ولا قلم الكحل .. ولكنها كانت الاحساس الذي تسلل إلى قلبـه بأن هذه المرأة وحدها سوف تكون راحته واطمئنانه .. وهذه مشكلة كل رجل .. إن الرجل في حقيقته ليس إمبراطورا وليس ربا لأسرته ولكنه عبدا لهذه الأسرة وخادما لأصغر فرد فيها .. خادم لا يطلب إلا الأمان والاطمئنان بأفدح الأثمان ..
من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود