anyquizi logo

المزاج

المزاج

المزاج


الحب عاطفة غير ديمقراطية .. الحب هتلر .. نيرون .. كاليجولا .. يـأمر دون أن يحـاول أن يبرر أوامره أو يبحث لها عن منطق أو أغلبية تساندها ..

إنه طاغية حر .. حرية لا تقبل مراجعة ..

إنه منتهى الحرية ..

إنه الحرية التي تسقط فيها المـوانع .. ويختفي الآخـرون ولا يبقى فيها إلا أنا أنا وحبیبی .. وروحي .. أنا وأنا ..

اللذة التي تدوخنا ونحن نحب .. والحـالة الملكية وهذا سر السلطانية التي نعيش فيها ونحن نعشق ..

ولو أن الحب كان موضوعا للنصـح والمشـورة والمنـطق ، لأصبح موضوعا عاديا كالزراعة والتجارة والهندسة .. ولأصبحنا نرسم قبلاتنا على الشفاه كما نرسم الكباري على الورق .. ولكن القبلة ليست مشروعا .. إنها شيء كالمرض .. إنها حمى تدوخ الرأس وتفك صامولة المفاصل ..

وأنت لا تستطيع أن تقبل حبيبتك وأنت في نفس الوقت تقـرأ الجرائد وتهز ساقيك .. إن القبلة تستولي عليك كلك ..

أما رسم كوبرى على الورق فهو مشروع هادئ بارد تقوم به ، أما وأنت تدخن وتصفر وتلقي بالنكات من حولك ...

في جلسة شاعرية روى لي صديقي قصة حبه ، وقال يشرح لي عواطفه التي استمرت ثماني سنوات تدور حول امرأة واحدة . إنها حبيبتي .. حياتي .. إننا شخص واحد .. عيوبها أصبحت کعیوبي أحتضنها وأبحث لها عن عذر .. ورغباتي تعبر هي عنها قبل أن أنطق بها .. انتهى بيننا ذلك الشيء الذي اسمه .. الخجل .. والـكرامة .. والاهانة .. والكبرياء .. فأنا أخلع ثيـابي في حضورها وكأنهـا غرفتي الخاصة .. وهي تخلع ثيابها أمامي وتتفوه بالعبارات التي تخجل أن تقولها لنفسها .. تقولها لي بفرح الطفلة التي لا تعرف الحياء .. لم نعد نعرف العيب .. لأننا فقدنا الاتصال بالناس .. واكتفينا بأنفسنا .. هي لي .. وأنا لها .. أنا أكتب لهـا .. وأسـهر لهـا .. وأشرب لها .. أنا هو أنا .. لأن هناك في الدنيا امرأة اسمها كذا .. جعلت مني الرجل الذي تراه أمامك .. وتكلم كلاما كثيرا بحدة وانفعال .. وهو يشرب ويسكر ..

وتساءلت وأنا أفكر ، هل كان أي من الأسباب التي ذكرها .. هو السبب الذي جعله يحبها كل هذا الحب .. لا أظن .. إنه يحبها .. لأنه يحبها .. هكذا ببساطة .. إن كل واحد من هذه الأسباب يمكن أن يكون سببا للنفور .. ويمكن أن يكون سببا للحب .. ومزاجه هو الذي جعل منه سـببا للحب . لو أنه أحب امرأة خجولا .. لأصبح خجلها من دواعي حبه .. ولو أنه أحبها متكبرة لأصبح كبرياؤها من دواعي عبادته . الحب ليس له صورة يعرف بها ..

إنع مرآة المزاج .. والمزاج متقلب مع العمر .. وله فصـول .. مثل فصول الصيف والشتاء والربيع والخريف . وصاحبي في صيف مزاجه .. والمرأة التي يحبها هي امـرأة صيف .. وغدا في ربيع مزاجه سوف يحب امرأة أخرى .. بالرغم من كل هذا السكر والانفعال .. وسوف تكون على نقيض الأولى في صفاتها .. وسوف يسكر مرة أخرى في صحتها ..

إن الحسنة على الخد التي نظن أنها هي التي أوقعتنـا في الهوى .. ينظر إليها غيرنا في نفور واشمئزاز ويعتبر أنها عيـب .. والمسألة مسألة كيف .. والكيف هو الذي يلون لنا الصفات التي تحبها .. ودولة الكيف دولة بلا دستور . والمزاج هو الرقعة الوحيدة الحرام التي لا تدخلها معقـولية ولا منطق ..

إن الواحد منا لا يعقد برلمانا مـن عـائلته ليقرر إن كان سيشرب الشاي أو القهوة .. وهو لا يضـع مبـررات ولا يقـدم حيثيات لاختيار البدلة الكحلي أو البدلة الرمادي ، وإنما هو في العادة يكتفي بأن يقول .. أنا عاوز كده .

فـإذا قـالوا له .. إن الشاي يعمل لك إمساكا .. والقهوة تسهرك .. واللون الكحلي غامق عليك في الصيف .. فإنه يكتفى بأن يقول مرة أخرى .. يا إخوانا أنا .. هوايا كده .. کده .. کیفي کده .. وهو في العادة يشرب الشاي ويلبس الكحلى .. ويمشى علـى مزاجه ولا يعبأ بأحد .. ليه ؟ ! ..

الناس تأكل الشطة .. وتصرخ من الألم .. ليه .. مزاج .. والمزاج هو الحرية .. .. إنه مجال حريتنا الوحيد في وسط الأسـلاك الشائكة المكهربة المنصوبة حولنا إن نفوسنا المسكينة محاصرة بالواجبات .. والالتزامات .. التزامات العائلة .. والتزامات المدرسة .. والتزامات الوظيفة .. والتزامات الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها .. والتزامات الخلق .. والدين .. والصداقة .. والمجاملة . وفى وسط هذه المطاردات التي يطاردنا فيها الآخرون نبحث لنا عن لحظة .. تكون ملكنا .. نبث فيها مكنونات قلبنـا .. وذات نفوسنا وأشواقنا .. وهذه اللحظة هي مزاجنا . فنجان الشاي .. والسيجارة .. وقـرن الشـطة .. وسـلطانية المخلل .. والدردشة مع نفس نحبها في ساعة صـفاء ، هـذا كل ما تبقى لنا من الدنيا .. ولهذا نتمسك جدا بهذه الساعة ولا نقبل فيها مساومة أو منطقا أو نصحا أو مشورة ، لأن هذه اللحظات هي لحظاتنا .. مزاجنا .. حريتنا .. إنها مثل شاربنا .. لا نقبـل أن يساومنا أحد في مصيره .. نحلقه حينما نريد أن نحلقه .. ونـربيه حينما نريد أن نربيه ..

مجموع ما تنفقه الدولة لاستيراد اللـب والسوداني والبندق والفستق والسجاير والخمـور والأفـلام السينمائية والكتب البوليسية وأجهـزة الـراديو والتليفزيون والاسطوانات وأشرطة التسجيل وورق الصحف وأصـناف البارفان .. أكبر مما تنفقه على إنتاج الحديد والصلب وهـذا طبیعي .. لأن هذه الأشياء ليست كماليات .. ولكنها ضروريات .. .. إنها المزاج .. والمزاج هو صميم شخصياتنا ..

الفلفل كان زمان سعره أغلى من الذهب .. حينمـا كانـت السفن تحمله من الهند وتدور به حول أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح .. وكانت دراهم الفلفل هدايا خطيرة يتبادلها الملوك .. والسبب هو المزاج ..

وكان الفلفل مزاجا .. ولا شيء يساوى المزاج .. كما أنه لا شيء يساوى الحرية .. ونحن ندفع كل ما نملك في سبيل مزاجنا .. كما ندفع عمرنا في سبيل حريتنا .

المرأة تضحي بعمرها في انتظار زوج على مزاجها .. فإذا لم تجده .. فإنها قد تضحي بشرفها لتحصل عليه رجلا لا زوجا .. إنه المزاج ..

نابليون خرب الدنيا .. لأن الحرب كانت مزاجه .. وقد دفعنا جميعا ثمن هذا الأفيون النابليوني .. ودفع أيضا الثمن مضاعفا في النهاية ..

إنه المزاج نقطة ضعفنا جميعا ..

لأنه الثغرة التي يدخل منها الاغراء ولا يحرسها العقل .. ولايجدى فيها العقل ..

ولهذا نهـانا القرآن عن الهوى والمزاج .

المرأة التي تدخل إلى من بوابة مزاجي تصيبني في مقتـل .. تصرعني .. اللهم اکفنی شر نزوات مزاجي .. أما نزوات عقلي فأنا كفيل بها .

من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود


عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر
تابعنا على الفيسبوك تابعنا على تلغرام

إختبارات قد تعجبك