المجتمع والفرد
إذا كنت تعد مائدتك بنفس الطريقة التي تعلمتها من والديك وتختار ثيابك في الحدود التي ترسمها لك المـوضة كل عـام .. وتنتقي كلامك من لوائح العادة والعرف والتقليد .. ولا تعرف من قاموس اللغة إلا كلمة نعم ، فأنا أمام هذه الستائر الكثيفة التي تحجبك سوف أجد مشقة في الكشف عن حقيقتك كإنسان ..
إني أراك مجرد اسطوانة .. مجرد مـرآة مسطحة تعكس الأشياء دون أن تضيف إليها شيئا من مادتها .. أنت لا تملك جديدا في داخلك .. لا تملك نفسا ..
إن المجتمع الصالح ليس مجموعة أصفار ، وإنما هو مجموعة أفراد .. وقدر صغير من الفردية ضروري ليفترق به الانسان عن الدابة .. وليفرق به المجتمع عن القطيع .
إن مليون إنسان يقولون نعـم .. دائمـا .. في كل مناسبة .. لا يعول على رأيهم .. لأنهم لا يختلفون عن مليون قالب طـوب يجاوبون على الصوت بترديد صداه ..
ليس من صالح المجتمع إذن أن يذوب فيه أفراده .. فيفقدون فردياتهم ويتحولون إلى تشكيلات آلية من النمل ..وإنما يجب أن يحتفظ كل فرد بنطاق من الحرية حوله يتنفس فيه ..
هذه حقيقة أولية .. ولكن هذه الفردية إلى أي مدى يحق لها أن تتنفس ؟ وهـل من حق فرد أن يملأ رئتيه بالهواء على حساب ملايين يختنقون حوله ؟ !
إن هذا ينتهى بنا إلى مشكلة كبيرة من مشاكل الفكر .. يسهر على حلها مئات العقول الكبيرة .. إلى أي مدى تذهب حرية الفرد .. وإلى أي مدى تنتهي مصلحته لتبدأ مصلحة المجتمع ..
إن الفرد يستمد عاداته وتفكيره ومقاييسه الخلقية .. ويستمد طعامه أيضا من المجتمع الذي يعيش فيه .. ولكنه ليس مجـرد وعاء يحتوى على المجتمع .. وإنما هو فرن تنصهر فيه العناصر الاجتماعية وتتحول إلى سبيكة جديدة ..
إنه يتفاعل مع ظروفه ويحاول التأثير فيها كما تـؤثر فيـه .. ويحاول ترتيبها في أسلوب ونتائج تجر بعضها بعضـا كـعـربات القطار ، ثم يضع إرادته مكان القاطرة ويجرها جهـد طاقته في طريق ممتد نحو الأفق الذي يتصوره ...
ولكن الظروف الاجتماعية ليست جامدة .. إنها تتحـرك هـي الأخرى ولها قانون يربطها .. واتجاه تتطور نحوه .. إنها كالريح ، وعلى الفرد أن يبسط شراعه ، ويتلقاها ، ويندفع بقوتها نحو غايته إذا أراد أن يصل إلى شيء .. فهو لا يستطيع أن يسبح وحده في التيار .. إن الفرد والمجتمع قوتان غير متكافئتين .. المجتمع قوة كبيرة لأنها التقاء إرادات الأفراد كلهم بإرادة التاريخ والتطور .. والفرد قوة صغيرة .. قارب يتأرجح على الطوفان ..
إن كولمبس اكتشف أمريكا . ومع هذا فأمريكا كانت في طريقها إلى الاكتشاف سواء أراد كولمبس أم لم يرد .. فالمراكب الشراعية كانت تقطع البحـار السبع في محاولة يائسة لكشف طريق تجاری قصير إلى الهنـد.
ومن وراء ذلك كانت تحتشد مصالح اجتماعية ملحة تجعل هـذا الكشف ضرورة لا بد منها .. وظهور أسماء ماجلان وفاسكودي جاما مع كولمبس في وقـت واحد يدل على أن كولمبس وحده ليس هو الذي كشف أمريكا... وإنما الحاجة الاجتماعية التي ظلت تتراكم حتى نفخت في شراع البحار البرتغالي وحملته إلى الأرض الجديدة ..
إن البطل ليس خرافة فردية .. وإنما هو التقاء إرادة فرد بإرادة مجتمع في لحظة موفقة .. كما تلتقي يد عارية بقفاز .. إنه سباح ماهر ركب الشلال .. فقطع ألف ميل في ثانية .. وبدا أمامها كصانع معجزات ..
والحقيقة أن المعجزة ليست في يديه ، ولا في ساقيه .. ولكنها في الشلال الذي ركبه ..
لقد كان الملك لويس السادس عشر في فرنسا ومـن حـوله الأمراء .. ورجال الكنيسة .. يملكون وحـدهم جميـع الغـابات والحقول والمـراعي والبحيرات وسدس الأراضي الصالحة للزراعة .. وألوفا من العبيد وعمال السخرة .. وكان الفلاح الفرنسي يزرع القمح ولا يأكله .. والشعب يعيش في مجاعة مستمرة وفاقة وبطالة .. وينظر في غضب إلـى مليكه السعيد الذي يتسلى بإشعال الحروب وفرض الضرائب .. وخطف العذارى من بيوتهن .. وكان بين الطرفين بركان يدمدم تحت الأرض .. يبحث عن فجوة يقذف منها حممه ..
كانت الثورة الفرنسية تحلق فوق الرؤوس .. كانت في كتب روسو ومونتيسكيو ود المبير وديدرو .. وكانت في ضمير رجل الشارع .. وحينما حدثت الثورة وأطاحت بالملك .. وقلبت الحـكم إلى جمهورية .. وتوالى على قيادتها ميرابو وماراوربسبير .. كان الذي يشاهد التاريخ من بعيد .. يشاهد هؤلاء الأفراد الأبطال وقـد ركبوا الشلال .. وأصبح الشلال هو الذي يقودهم ويجـرفهم في تیاره .. كان يشاهد المجتمع يتحرك .. والقواد جالسين على طوفانه ..
إن ارادة المجموع هي التي تملأ الفرد بالقوة حينما تنصب فيه .. وهي التي تعطيه القدرة التي يغير بها التاريخ . إنها كاليد في القفاز ..
ولايعني هذا أن الفرد كمية لا تزيد ولا تنقص في حسـاب الحوادث .. فالتاريخ في مد وجزر .. وليس شلالا دائم التدفق ..
وفي الفترة الطويلة التي يهدأ فيها ماء البحـر .. وتنـام الـريح .. ويستقر السلام .. يبدأ الفرد يعيش .. ويتسـع أمـامه الأفـق .. ويمتلىء بالاحتمالات .. ويزداد دوره في تخطيط الحوادث التي تتراكم فيما بعد لتصبح أساسا للتطور ..
إن المجتمع صندوق كبير مقفل .. والفرد ثقب صغير .. ولكنه ثقب يدخل منه الضوء .. والمجتمع في حاجة إلى ضـوء وهــواء لأنه ليس دائما بحالة جيدة ليس دائما على صواب فهو يتقـدم ويتماسك كما يتفكك .. والفرد الحر الواعي هو كما يتدهور.. وحده الذي يستطيع أن يكتشف قـوانين التحلل والفساد في مجتمعه .. ويستطيع أن يلقي بحبل النجاة في الوقت المناسب . فليس من صالح المجتمع إذن أن يذيب أفراده في داخله وأن يحولهم إلى أصفار وإلى تشكيلات من النمل .. وإنما عليـه أن يحفظ لكل فرد نطاقا من الحرية يتنفس فيه .. وبهـذا يكتسب مرونة وقوة .. وقدرة على البقاء .. ويصبح كالخزف الثمين الـذي لا يقبل الكسر..
من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود