بسمة على شفاة مسجد ..
أراد والده أن يكافأني فقلت له : شكرا لك يا باشمهندس لقد أخذت أجرتي منذ زمن
و قبل أن ينتهي من اندهاشه قلت له :
هل تعلم أنني كلما رأيت مسلما واحدا اتجه لهذه القبلة بسببي أو فتح مصحفه معي ..
أو مشى طريقا واحدا معي كلما أحسست أنني لم آتي لهذه الدنيا عبثا .. وأنني ملكت هذه الدنيا .
كان الرجل السبعييني قوي البنية العملي مندهشا ثم قال :
أنا اقصد شيئا آخر... متى أخذت المكافأة ؟
قلت له منذ عام 1983 ...يوم أن عرفنا طريق المسجد ثم همهمت في سري ...
ماذا ستعطيني يا رجل ؟..حطام و قشور! ..لقد خلقنا الله لنعطي نحن يا رجل ..
إنا تركنا مكاسب التجارة و مباهج الحياة كلها مقابل هذه النظرة ..
هكذا قصة اليوم كما حكاها صديقي من جنوب القاهرة ..
تلك المدينة الضخمة العملاقة التي تبتلع كل شيء و تستعصي علي الانهزام وتقاوم كل غاصب و متجبر فتقصمه ..تلك المدينة التي لي فيها و معها أجمل وأروع الذكريات ..
وفي منطقة أقرب ما تكون للصحراء بعدًا واتساعًا مازالت شوارعها ترابية حتي يخيل إليك وقت الرياح أنها تمطر أكياس زبالة و ناموس وذباب و حشرات طائرة فتغلق نافذتك و تتقوقع القرفصاء تنتظر نهاية هذا الهجوم الغاشم ورائحة التراب اللاذعة ..
قال : كان يوم جمعة نزلت المسجد؛ لصلاة العصر في أول رمضان و معي زجاجة مياة معدنية صغيرة وزجاجة عصير برتقال صنعته بنفسي بحجم زجاجة المياة وترموس قهوة عربي و عدة تمرات من تمر المدينة الجميل تكفيني وتكفي عمال المسجد والإمام مع أن معهم إفطار فخم من صاحب المصنع لكنهم كانوا ينتظرون هذا التمر وتلك القهوة كل يوم ..
صليت العصر وجلست على الكرسي الخلفي الفخم فقد كان مخصصا لصاحب المصنع ولا يجلس عليه غيره .. لأنتظر صلاة المغرب ثم صلاة العشاء ثم القيام والذي كان بجزء كامل رغم تحذيرات الأوقاف فصاحب المصنع له خصوصيته لدى الدولة وهو رجل كريم .. ثم أعود إلي محل إقامتي ، وهي غرفة وصالة خصصها لي صاحب المصنع ويوجد عامل الشركة يمر عليّ كل يوم ينظفها لي ولا أطلب منه شيء آخر فأنا أقوم بخدمة نفسي فجزاه الله خيرا....
..كانت الفترة الزمنية الممتدة من قبيل صلاة العصر والتي أجهز فيها احتاجاتي في المسجد إلى عودتي..كانت من أروع أوقات العمر فكانت الجنة بعينها لم أسعَ للتعرف على عمال المسجد ولا الإمام ولا بعض مشايخ التبليغ الذين يأتون فرادى على استحياء وكبيرهم شيخ تسعيني وقور ومعه طفل في عمر التسع سنوات ، كنت أظن أنه حفيده لكن الطفل ناداه ذات مرة يا أبي.. و قد أرهقه العجوز بالأوامر والطلبات أن ينظم العلب التي معه ويفرغ بعض الأكياس المملوءة بالطعام والفواكه ويعيد فرش المكان وتحريك حامل المصاحف وبعض الكتب التي معه مع أنه لم يقرأ منها شيء البتة والطفل مستمتع جدًا وينفذ دون نقاش أو حتى كلام متحركًا بنشاط وعفوية.. ثم يختفي الطفل حينًا ويأتي معه أطفال آخرون من خارج المسجد يدخلون بسرعة و يزرعون المسجد ركضًا وحركة ثم يتفقدون جميع المبردات يتحسسون برودة المياه يملؤون أكواب البلاستك ثم يفرغونها ثم يملؤونها استعدادًا لموعد الفطار البطيء جدًا عليهم لكن العجوز كان يراقبني يريد أن يفتح حوار لم يتم أبدا ؟
ويتعجب من ذلك الشخص العجيب الغريب الجالس على الكرسي المخصص لصاحب المصنع ولا يتكلم مع أحد ..
بعد انتصاف الشهر الكريم
دخل علينا شاب أعرفه .. وسيم رشيق وجهه مبتسم و في عينيه ذياك البريق الغامض و بداخله ذلك الشيء الذي لا نعرفه ..
اتجه لي مباشرة ظن أنني أبوه ..
إنه ابن صاحب المصنع ..
وكان قد حضر لي دورة التدريب في بناء الشخصية و دورة أخرى في إدارة المبيعات وكانت تعليقاته تنم عن ذكائه حتى قفشاته ذكية مرحة مفعمة بالحب والحياة .. فلا يجعلك تنساه ..
كأنه أندهش لما لم يجدني أباه .. بتبسم وأدب جم ألقى السلام وطلب من العامل تشغيل جهاز التكييف ولا يكتفون بالمراوح وأمره بتشغيله ما دمت أنا في المسجد .. ( المدير..)
جلس .. لم يتحرك ..
كنت أشعر به ..كان عقله يعمل . كان ذكاؤه يستحث خطاه أحيانا.. ويناقشه ويحاوره أحيانا ..ويعاركه ويغلبه ويسحقه فتأبى نفسه الأبية التي تعلمت في أمريكا..( فقد كان الابن الثالث لأبيه و لا أحد يرفض له طلب والذي يصادق الفتيات و لاعبي الكرة والفنانات وغيرهم .. )
لكنه مختلف .. تحس أنه قريب ..
بعد فترة قال لي متى تنتهي ؟
قلت له أنا تحت امرك..
قال الأمر لله ..ثم سكت بنظرة مدققة حادة ..
وبعد ثلث ساعة ضاحكا قال لي هل تقرأ سورة البقرة؟ .. لانها طويلة وممكن تخلصها على المغرب ..
وقبل ان أتكلم لاكرر( أنا تحت أمرك )... لم ينتظر الإجابة ثم تناول مصحفًا وقرأ قليلاً ثم انصرف ....
في اليوم التالى جاء مبكرًا ربع ساعة .. فجلس نفس الجلسة بنفس شياكته فقد كان يلبس بدلة فخمة سموكن من التي يرتديها النجوم ورجال المال والأعمال وساعة فخمة وعطر رائع قد يكون ذاهب لفرح أو سهرة ولكنه جلس على كرسي بلاستك بجواري لم يعبأ لبدلته ولا هندامه ..تناول مصحفه وقرأ قليلا وانصرف ..
في اليوم الثالث جاء مبكرًا ربع ساعة أخرى وكأنه يريد أن يعرف موعد وجودي كان يلبس طقم رياضي فخم يرتديه وهو يذهب لملاعب التنس فى نادي المعادي ..
ثم انقطع عدة أيام ثم ظهر بجلباب أبيض أنيق مغربي وانتظر بجواري على الكرسي البلاستك و لما جاء وقت الدعاء قال هل ممكن ترفع صوتك بالدعاء ...
في الغالب يستغرق دعائي في رمضان قبيل المغرب ربع ساعة يبدأ بالحمد والثناء على الله والصلاة على الرسول ثم الدعاء لنفسي ثم أبي وأمي وأخي وأختي وابن أخي وبنت أختي رحمهم الله الذين ماتوا في حياتي ثم باقي الأموات من أرحامي
ثم لزوجتي الحبيبة ولأولادي لكل منهم دعاء: الطالب لينجح والغائب ليعود والمريض ليشفي وأن يهديهم الله و يجعلهم من أهل الطاعة وأهل القرآن ...ثم لأصدقائي بالاسم .. نعم فلي بضعة أصدقاء ادعوا لهم بالاسم ولأولادهم كل ليلة حتى وإن افترق بعضهم ولم أعد أراه حتى وان لم يطلبوا مني فهذا حقهم علي ..
طبعا غيرت الدعاء قليلا وذكرت السابقين إجمالا ودعوت بأشياء تناسب حالتنا أنا وهو ... كالعودة إلى الله والبعد عن المعاصي وأن يقبلنا الله فقد لجأنا اليه وليس لنا أحد سواه وعباده سوانا كثير وأننا ضعفاء فيقوي في رضاه ضعفنا وأننا محتاجون له وهو غني عنّا وأن يعطينا من خزائنه المليئة وعطاياه المدهشة ..وأن يعاملنا برحمته وعطفه وحنانه وإحسانه لا بعدله..وإن يرينا طريق الحق حقا ويرزقنا اتباعه وطريق الباطل باطلا يرزقنا اجتنابه وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا وأن يرزقنا حبه وحب الصالحين وأننا احببنا سيدنا النبي حبا جما ملك علينا شغاف قلوبنا و أن يرزقنا اتباع سيدنا النبي ومعرفة طريقه ويسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدا..
بكينا كما لم نبكِ من قبل ...
بكي هو بصمت ثم بتهدج ثم بنحيب كنت أبكي مرة تأثرا ومرة لبكائه ومرة فرحا ومرة لتذكري البدايات ...
ما أجمل صفاء الابتداء
ما أجمل ان ترى ذلك الصفاء على وجوه تستحق ..
نعم فهناك وجوه حاولنا معهم وفشلنا لطبيعة مركوزة فيهم ولعدم مساعدة والديهم أو لعدم رضا الله عنهم أو لأنه لم يحن وقت عودتهم بعد ...لنعلم أن الله هو وحده الهادي وإنما علينا البلاغ ..
.. هذا الشاب كان يحبه الله فعلا ..
فباشرت بشاشة الإيمان شغاف قلبه .. فبدأ الصلاة على وقتها بنفس همته في العمل وأكثر
ثم تعلمنا معا تجويد القرآن ..
وانتهت رحلاته بأوروبا و أصبحت صوب مكة والمدينة ..
وانتهت علاقاته بالفنانين ولاعبي الكرة وأصبحت بالفقراء والعاملين معه وأصحاب العمل مثله
اصبح إنسان يحبه الله.. و يحبه أبوه فجميع الآباء والأمهات الطبيعيين يريدون ذلك لأبنائهم..
أصبح شخص مختلف إيجابي نظيف يحمل هم أبيه وأخوته بعدما كانوا هم يحملون همه ..
لا أظن أن صاحبنا هذا تغير بسبب رجل التبليغ وأصحابه الأربعة وأحفادهم ولا بشيخ المسجد الذي يخشى الكلام كأننا جواسيس عليه أو كأنه من كوكب آخر.. أو كأن وزير الأوقاف قفل فمه وبصره وسمعه .. ولا بسبب كرسي والده الذي يشبه كرسي قيامة أرطغرل بسهامه وصولجانه
ولا بسببي ...فكل ما فعلته حينما يأتي ابتسم له وأدعو له في سري مع شبه حركة من على كرسي أبيه كأني أقول له تفضل قبل أن يجلس بسرعة على الأرض قبالتي ووجهه مشرق كالحياة ...باسم الثغر كالصباح الندي ..
أنه حب المسجد وكفى
المسجد الذي يعيد ترتيب حياتَك وأضلاعَك وقلبك ووجدانك ..
المسجد الذي اضعناه فضعنا ..
المسجد الذي أتصل بي صديقي عادل ليبشرني أنه استمتع بالمسجد الذي أعاد له توازنه وكأنه قام من حمام بالبخار تتفتحت فيه جميع مسام جسده وضاع معه التعب
..
بقلم علي السيار