مشرف على قلبي ..
في منتصف التسعينات كنت أعمل مؤقتا لدى رجل أعمال خلوق وناجح، كلما أتى لعمل في القاهرة ومعه سائقه الخاص كان يتصل من هاتف السيارة الفارهة بأولاده الثلاثة في المدن الجامعية عند مشرف الدور، ويتحدث معهم ببهجة وحب وخفة دم ذكية مدهشة، ولما علمت أننا سنقابلهم في مطعم فاخر في نهاية اليوم سألته لم تتعب نفسك وسوف تقابلهم بالليل؟
قال هذا الموعد اليومي للحديث معهم هاتفيًا ولن أترك فرصة للتواصل مع أولادي، هي من حقهم وإلا شعرت بالإثم ..
سألته وهل أنت على معرفة سابقة مع المشرف ؟ قال: لا، بل تعرفت عليه ويأتي لطعامي مع أولادي أحيانًا، وأرسل له هدايا بسيطة؛ لأنه يتحمل أمانة الإشراف على قلبي ..
قال ابن لأبيه : تذكر يا أبي حينما كنا صغارًا؟ قبل أن يكون هناك هاتف جوال وإنترنت أنك كنت ترسل لنا شريط كاسيت بصوتك كلما نزل صديق إجازة من المدينة المنورة عندك إلي القاهرة , كنا نجتمع نحن وأمي و جدي وجدتي حول جهاز الكاسيت كنت تبتدئ الشريط بتسميع آيات من ورد الحفظ على يد شيخك عمو الشيخ فتحي رمضان -حفطه الله- المراجع للمصحف الشريف في مطبعة الملك فهد والمدرس بالمسجد النبوي الشريف ..
ثم تتحدث إلى جدي وجدتي، ثم إلى أمي ثم إلينا واحدا واحدا ..ثم تحكي لنا أحوالك وبعض الحكايات الهادفة وبعض القصص الطريفة .. كان جدي وجدتي وأمي يبكون ثم يضحكون ثم يبكون ثم يتهامسون بالدعاء والثناء ونحن نبكي ونضحك معهم و نؤمن على دعواتهم فى آن واحد ..
كنا نسمع الشريط كل يوم دون ملل ولا نتركه إلا حينما يأتينا الشريط الجديد
لم تكن هذه الرسائل نبراسًا يدلنا على الطريق فحسب، بل كانت جرعة دفء و مداد حياة ..
كانت كل رسالة رحلة في عمق الحب والسعادة والجمال..
فكانت بدايتنا معك وسعادتنا معك يا أبي الجميل..
..
كان صديقي د. مصطفى عادل - رحمه الله - على المعاش وكان يساعدني في إدارة مشروع تربوي فكان يتصل بزوجته وأولاده قبيل الصلاة يتكلم معهم بلطف وحب ولين ويذكرهم بالصلاة والبسمة تعلو وجهه الأبيض بلحيته البيضاء الجميلة في لوحة إيمانية مشرقة ...
في مكالمة عبر الماسنجر تحدث الابن العشريني المهندس مع والده المسافر خارج القطر لتوفير لقمةِ العيش ...
قال الابن والله إن أكبر نعمة في الحياة هي وجود حضرتك في حياتنا يا أبي ..لقد حرصت أن تحفظَنا جميعًا القرآنَ وأن ندخلَ جميعًا مدارسَ الأزهر الشريف وأن ننتقلَ من منطقةٍ ريفيةٍ فقيرةٍ إلى أرقى أحياءِ العاصمة، و اخترت لنا معلمين أكفاءَ يساعدوننا، وأشرفت بنفسك علينا في مدارسنا وفي النادي وعلمتنا طريقة جميلة لتكوين أصدقائنا، ومنعت عنا كل مؤذٍ وضارٍ وكل صحبه سيئة وكل ضياع للوقت، و تركت لنا في بيتنا مكتبةً ضخمة كنّا نهربُ إليها إذا أحسسنا بالملل وحتى في بعدك تحرص كل يوم على الاطمئنان علينا...
أعرف أبًا إلي الآن يتصل بأولاده وأحفاده كل يوم أكثر من ساعتين عبر الماسنجر يسمع منهم و يعطيهم دروسًا ومحاضرات، ويسأل الأحفاد نفس الأسئلة التي كان يسألها لأولاده، ويحكي لهم نفس الحكايات و نفس القفشات ونفس الطريقة و فوجىء أن أولاده حكوا للأحفاد عن مهارات الجد فكان التفاعل أكثر ...
للأسف الشديد تجد أبًا يجلس مع أولاده و ينشغل هو بالتواصل والشات مع أصدقائه و يضيع وقتًا مهمًا. ..فاشلٌ هو ومدمر ومجرم الأب الذي عنده زوجة وولد واحد ويحس بالفراغ والملل والضيق ويهرب إلي المقهى أو إلى الشات ويترك الرعية الذين يسأله الله عنهم ....
في إحدى الدورات التدربية للعاملين في إحدى الشركات الكبرى، وفي مكتب صاحب الشركة الكبير المكتظ بمديري الشركة وبعض قطع صوته الجهوري الكلام الجانبي والهمهمات والضحكات و بطريقة سريعة وحاسمة دون أي مقدمات قال لي : أريد من حضرتك أن تجعل ابني يحبني ويناديني أحبك يا أبي..أريد منه أن يتصل بي و يقول: أفتقدك يا أبي..
سألته بعفوية وهل تقول له ذلك ؟ قال بطريقة المدير الآمر الناهي وبصرامة: وهل هو يشك في حبي له ؟! ...قلت له بكل هدوء وبابتسامة الواثق المتحكم نعم هو بحاجة لذلك ..وأردفت : نعم أعرف أنك تحبه وأنك تتعب من أجله وتخاف عليه، وتقف بجانبه لكن ذلك غير كاف وليس له أي أهمية عند البعض إن لم تقل له أحبك يا بني كل فترة ...
أن تتصل به لكن لا تبلغه أوامرك الصارمة ونواهيك العنترية..قل له كم أفتقدك يابني .. اجلس بجواره، وضع يدك على كتفه بحنان مرر أصابعك بين خصيلات شعره وقل له: هل تحتاج مني شيئاً يابني ( كانت يد المدير تتحرك بعفوية لشاب عشريني بجواره يحمل نفس ملامحه ويضع يده علي كتفه ويمررها بين خصلات شعره فصاح الشاب وهو يبتعد قليلا قائلا: ياليت الآباء يفهمون ذلك واعتدل الشاب يريدني أن استرسل فتوقفت استوعب ما يحدث....
غير أني أجد أن فشل الأولاد يعود بالأساس إلى فشل الأب في التربية، إن كان يدرك أصلا معنى التربية ...
يظن البُلهاء من الأباء أنّ تربية الأولاد تقع علي عاتق الأم؛ لانشغاله طوال اليوم بتحصيل لقمة العيش، والتي أصبحت دربًا من دروب الجهاد في ظل الظروف الاقتصادية المتردية حد الفقر المدقع ..
نعم إن الحلم الجميل الذي يعيشه كل أب أن يرى أولاده في أحسن حال، وأن يكونوا نبتاً حسنًا، وفي قمة الكمال العلمي والأخلاقي والبدني، لكن ليست الأمور بالتمني، لابد من المجهود والتعب وتحمل المسؤلية، "فكلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته"
ويقول المولى -عز وجل- : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا "( التحريم: ٦)
تحية إعزاز وتقدير للآباء الذين نجحوا في تربية أبنائهم والحفاظ علي بيوتهم، و منعوا عنهم كل ضار وسلبي ..
تحية أخرى لأولئك الذين أخذوا بالأسباب وحاولوا لكنهم وجدوا أبناءً صعب المراس ..
وكما رأينا لا عذر البتة لدي الأباء مهما انشغلوا أو بعدت بينهم وبين حبات قلوبهم المسافات
كتبه علي السيار