افعلها الآن
في مجلة المختار عن الريدرز دايجست التي كانت تصدر في مصر قبل حرب 1967، قرأت مقالاً كتبه صحفي أمريكي ولم أنسه قط، يقول الصحفي: إنه تلقى خطابًا ظريفًا من صديق قديم. صديق طفولة لم يره منذ ثلاثين عامًا.
صديق طفولة من الطراز الذي كنت تتقاسم معه البلي وترميان (البومب) على المارة وتتبادلان الطوابع. كل واحد فينا لديه صديق قديم مثل هذا.
هذا الخطاب جعل الصحفي في حالة نشوة دائمة. وضعه على المكتب، وراح يفكر في الخطاب الذي سيرد به: سوف يستعيدان ذكريات اللهو في الغابة خلف المدرسة. سرقة مجلات الأطفال من صديقهما المثقف. الأرجوحة المعلقة بين شجرتين ومحاولة تركيب محرك لسيارة سباق صغيرة. الحب الأول في الطفولة والشجار على رضاها. إلخ.
قضى الوقت يؤلف في ذهنه فقرات الخطاب الرائع الذي سيكتبه. كل فقرة وكل جملة.
كتب عدة صيغ لكنها لم ترق له، ولم يكن هذا هو الخطاب المذهل الذي يفكر فيه.
مرت الأيام.
الأيام صارت أسابيع.
مع الوقت بدأت الفرصة تقل واحتمال الجلوس للكتابة يضعف.
صار الرد على الخطاب كابوسًا أو دينًا لم يُسدد. صار يستيقظ شاعرًا بالتعب وينام بعد أرق طويل، وصار مكتئبًا يتحاشى دخول غرفة مكتبه. وفي كل يوم يزداد شرود ذهنه أكثر، حتى أنه بدأ يشتم صاحبه ويتمنى لو لم يكن قد كتب له.
ذات يوم عاد للبيت فجاءت زوجته - التي تعرف المشكلة - ووضعت أمامه ورقة وقلمًا، وقالت له:
ـ "وقّع".
نظر فوجد أنها رسالة بالآلة الكاتبة موجهة لصديقه، تقول: "تلقيت خطابك الممتع وأسعدني كثيرًا. يجب أن نلتقي لتبادل الذكريات. شكرًا لك". وهناك خانة للتوقيع!
قالت زوجته: إنها كتبت له هذه الرسالة على الآلة الكاتبة بنفسها، وعليه فقط أن يوقعها ويرسلها لصاحبه. لثم يدها ممتنًا وقال لها إنها كائن رائع. لولاها لما أرسل الخطاب أبدًا ولظل ينتظر إلهامًا لا يأتي وصفاء مزاج لا يجيء. لقد أزاحت عبئًا رهيبًا عن كاهله.
تذكرت هذه القصة عندما فتحت (الفولدر) المسمى (خطابات مهمة) في بريدي الإلكتروني. وجدت عددًا هائلاً من الخطابات التي قدرت أنها تحتاج لرد مطول أو أكثر تدقيقًا. هذه خطابات ظللت أؤجل الرد عليها (لأنها تستحق عناية أكبر) والنتيجة هي أن بعضها ظل هناك عامين بلا رد، بينما أرد أحيانًا على الخطابات خلال دقيقة من تلقيها. لو كنت ذكيًا لوجدت صيغة محايدة مثل التي استخدمتها زوجة الصحفي وتصلح لكل شيء.
هناك كذلك خطابات لا أرد عليها إلا بعد سنين، وهي التي تتضمن أعمالاً يريد القراء رأيي فيها.
هذا معناه أنك ستؤجل الرد إلى أن تقرأ العمل وتكون رأيًا عنه.
هكذا يحكم على هذه الخطابات أن تنتظر طويلاً جدًا. وبعد فترة تشعر بأنك ستكون سخيفًا جدًا لو رددت الآن. هناك طريقة اخرى تحل هذه المشكلة هي أن يتلف الكمبيوتر أو يتسلل إليه فيروس. هكذا تضيع كل هذه الخطابات ولا أشعر بتأنيب الضمير، فالذنب ليس ذنبي.
كنت أريد زيارة أقاربي في إحدى المدن. تأخر هذا المشوار كثيرًا. مع الأيام ازداد تعقيدًا وصعوبة. ثم زاد علي ذلك خوفي من تلقي اللوم على كل هذا الانقطاع، وهكذا دخلت في دائرة مفرغة من تأجيل السفر فالندم بسبب تأجيل السفر. من ثم الخوف من السفر فتأجيله من جديد. على الأرجح لن نلتقي إلا في العالم الآخر.
يقول الحديث الشريف: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، والمعنى واضح، وهو ألا تستقل ما تقدر على تقديمه. فلتتصدق بما في يدك الآن فهو قادر على أن يحدث تأثيرًا. ينطبق هذا على مقالنا، مع الفارق طبعًا.
لا يمكن أن تنتظر حتى تكتب خطابًا من فن المراسلات عند العرب، وإنما اكتب لصديقك كلمات بسيطة من القلب. لا تؤجل زيارة من تحبهم. افعل هذا الآن. لا تنتظر حتى تكون رائعًا أو تمنح بسخاء أو ترد بفصاحة، فتلك اللحظة لن تأتي أبدًا، وكلما تأخر الأمر ازداد صعوبة وبدا مستحيلاً
أحمد خالد توفيق
نُشر في 31 ديسمبر 2014