ديكولتيه
المرأة في الغالب عملية جدا .. واقعية جدا عاطفية حسـية .. نظرتها قريبة .. لا تذهب في العادة لأبعد من زينتها .. فستانها .. مطبخها .. بيتها .. رجلها .. أولادها .. عـائلتها .. جيـرتها على الأكثر .. اهتماماتها في العادة لا تتجاوز هذا النطاق العملـي .. وهي تترك للرجل أن ينظر لأبعد من هذا .. فيهتم بوطنه وبلـده وبالعالم .. ويكافح على مستويات أكثر عمومية .. فيكافح من أجل الحرية والعدالة والفكر والفن .. بينما تكتفي هي بالوقوف بعيدا لتبتسم وتصفق وتشجع .. ولكنها لا تفكر في أن تشارك جـديا في هذه الأهداف المجردة ..
هذا حال الأغلبية من النساء .. والاستثناءات القليلة للنساء اللاتي كان لهن دور في الفكر والفن والسياسة ، كانـت طـرائف تروی كما تروى قصص البطولة .. وهي تؤكد القاعدة ولا تنفيها ..
المرأة عملية .. ولا تحفل كثيرا بالقضايا المجردة .. الانسانية .. والعالم .. والفكر .. والعـدالة .. كلمـات مـجـردة بالنسبة للمرأة .. وهي تفكر فيها فقط على المستوى العملي ، وفي نطاق محدود .. هو أولادها وبيتها .. إن بيتها هو العالم .. وأولادها هم الانسانية .. وحينما يخرج رجل مثل سقراط على تقاليد بلده ويخرب بيته في سبيل أفكاره الانسانية ، فإن زوجته تلطم على خديها ولا تفهـم كيف يفعـل رجلها المجنون هذه المصيبة .
وبالمثل حينما يوزع تولوستوى أرضه على الفلاحين ، لأنـه لا يطيق مناظر الظلم والاستعباد والاقطاع .. فإن زوجته تشـق ثوبها على جنونه .. وحينما يعلن جاليليو نظرياته في الفلك ويعتقـل ويعـذب في محاكم التفتيش فإن زوجته لا تفهم شيئا في نهضة الفلك هـذه .. إن كل ما يهمها أن الأولاد سوف يشردون .. إن العلـم كلمـة مجردة بالنسبة لها .. إن كل ما يهمها هو قوت العيال والأمـان المادي للبيت والأسرة .. وهذا يعني أن الخيال والتفكير النظري هما لعبـة الـرجل وليسا لعبة المرأة ..
المرأة ليست خيالية .. المرأة عملية واقعيـة تفكر على أساس ، وبناء على موضوعات قريبة منها وفي مجـال حواسها .. وعلى هذا الأساس تفكر بيوت الأزياء حينما تحاول اجتذاب المرأة بمبتكراتها وموضاتها .. إنها تجسم الأنوثة بأسلوب واقعی ويتفصيلات حسية عملية .. إنها تقدم الأنوثة على أنها .. عـريان وديكولتيه وجابونيز ومحزق وسوتيان بحلمة وكورسيه .. تقـدم الأنوثة على أنها أعضاء .. وهي بهذا تعكس التفكير الحسى الواقعي كما هو في العقلية النسائية ..
ولكنى .. أنا الرجل .. لي تفكير آخر .. الأنوثة عندي خصائص مجردة معنوية روحانية .. إنها في الصـوت والنبـرة والسرائحة والحركة .. وفى نظرة العين الفاترة الدافئة العطوفة الحنونة .. وفى اللفتة الفياضة بالرأفة والأمومة . ومعنى هذا أن هناك نوعا من عدم الوفاق حاليا بين تفكير المرأة وتفكير الرجل .. هناك اختلافات جوهرية في أسلوب الحياة وأسلوب الفهم بين الاثنين .. المرأة تريد خدمات ملموسة ومسرات واقعية قريبة في مجـال زينتها ولبسها ومصروفها وأكلها وشربها وبيتها .. والرجل لا يهتم كثيرا بهذه المطالب الملموسة القريبة ، وهو أحيانا يضحي بها في سبيل أهداف بعيدة مجردة غير ملموسة مثـل الفـن والفـكر والحرية والوطنية ..
والمرأة في الغالب لا تفهم هذه التضحية إنها تريد عيشة لوكس وفخفخة .. وفكر إيه يا عم وأنا مالي ومال الفكر .. خليك اشبع بالفكر بتاعك .. لكن أنا عاوزة أعيش .. وبالطبع هناك أقلية من النساء تفهم وتقدر وتشجع ، وتحـب بالقلب وبالروح .. وتعرف ما هو هذا القلق الذي يشعر به الرجل على المعنويات والقيم المجردة ..
والفنان يكون محظوظا إذا عثر على واحدة من هذه القلـة الحساسة والتواقة بروحها إلى الجمال والكمال والقيم المعنوية .
ولكن الأغلبية من الجنس اللطيف تنفعـل أكثـر بـالذهب والألماظ وتبرق عيونها مثل عيون القطط في الليل أمام واجهـات العربات وتوكيلات كاديلاك ومرسيدس .. وفاترينات الجواهرجية .. وأنا لا أقول هذا لأهاجم المـرأة أو أعيبهـا .. فليس هـذا التفكير طبيعة فيها .. وليس غريزة .. وليس صفة أصيلة مـن صفاتها .. وإنما هو صفة مكتسبة لا ذنب لها في اكتسابها .. الذنب ذنبنا نحن .. لقد اكتسبت المرأة هذه الصفة نتيجة تخصصها في مجـال البيت وعزلتها بين جدرانه وانفصالها عن المشاركة العامة في المجتمع أجيالا طويلة متعاقبة بناء على طلبنا وبناء على تسلطنا وتحكمنا وأوامرنا بأن تكون الست للمطبخ والـرجل للمجتمـع والفن .. وكانت نتيجة توزيع الاختصاصات بهذه الطريقة .. هذه الثغرة بين تفكير النساء والرجال والخلاف بين الاثنين على أهـداف لا يلتقون فيها أو يكون اللقاء فيها بالضرب وبالعافية .. والحل في نظري ليس المقالات وحدها .. وإنما الحل الحقيقي هو الزمن ..
إن نزول المرأة إلى ميدان العمل واصطدامها بـالمسئولية الاجتماعية وتسلمها مقاليد حريتها سوف يؤدي في البداية إلـى موجة انحلال نتيجة انبهار المرأة بحريتها الجديدة ، وانـدفاعها في تجربة هذه الحرية للحصول على لذات سريعة ، ملموسة مـن كل نوع .. وهو انحلال سوف ينتهى بأن تعود مـن مغامراتها مجرحة مهانة مبتذلة ضائعة خائبة .. وتكون نتيجة هذا الانحلال أن تثوب إلى نفسها .. وتفتقد القيم والمعنويات وتبحث عنهـا .. وتقلق عليها .. وتفكر فيها وتهتم بها .. وتسعى إليها كما يسعى الرجل .. وبذلك يلتقي الاثنان في التفكير وفي الحياة وفي الحـب.
وقد اكتشفا معا أن الأهداف المجردة والمعاني يمكن أن تكون ملموسة ومقنعة ومرغوبة أكثر من الأكل والشرب واللبس .. ومثل هذا التطور سوف يحتاج إلى مائة سنة .. نشربها نحن في الوحدة والانتظار .. ويشربنها هن في الضياع ..
وقلة من النساء الذكيات بالطبع سوف تكون عندهن الفطنة التي يكتشفن بها هذه الحقيقة ويتطورن مـن تلقـاء انفسـهن ويوفرن على انفسهن المائة سنة .. لأنهن يمتلكن أرواحا حساسة قادرة .. وهؤلاء النساء الذكيات النمـوذجيات سـوف يعرفن كيف يقصصن عقولهن على الموضة وكيف يقصصن أرواحهن على الباترون ۱۹۸۰ لآخر مبتكرات الفكر والفن والحب والجمـال .. وكيف تكون الواحدة منهن حلوة في تقاطيعها .. حلوة في لبسها .. حلوة في سجاياها .. كيف تقص فستانها ديكولتيه .. وعقلهـا ديكولتيه .. كيف تكون مشتهاة وبعيدة المنال .. وكيف تكون ذات كبرياء وبسيطة .. وكيف تكون عاقلة وطفلـة ، وكيف تكون لطيفة ومهابة .. وكيف تكون ست بيت وقارئة ذواقة .. وكيف تكون صديقة وعاشقة ..
لتحاول كل واحدة منكن أن تكون هذه المرأة الذكية النموذجية التي تفهم سير الدنيا وتوفر على نفسها مائة سنة من التطور .. وتجسد لي أحلامي لعام ١٩٨٠ ..
من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود