الچاكيت
يقال إن الأدب الروسي خرج كله من معطف جوجول .. الرواية الشهيرة التي كتبها نيكولاي جوجول، عن أكاي أكاكيفتش الموظف الاعتباري، الذي ظل طويلاً يحلم بأن يلبس معطفًا فاخرًا من الفراء.
بعد أن ينجح في ادخار ثمن المعطف، ويقوم الترزي بتفصيله له.. يلبسه ويخرج في الليل العاصف والصقيع وقد بلغ قمة النشوة والسرور، وهنا ينقض عليه لصوص مسلحون فيضربونه ويسرقون المعطف.. النتيجة أنه يعود لبيت أمه، حيث يصاب بالحمى أيامًا عدة، ويهذي ثم يموت!
لم تكن قصتي أنا بهذه المأساوية.. كنت قد رأيت صورة لمطرب عالمي شهير يقف على المسرح وهو يلبس زيًا أنيقًا ، هو بول أوفر أسود وجاكت بلون المشمش.. بدا لي منظره أنيقًا جدًا واحتفظت بالصورة أعوامًا عدة، ثم جاء اليوم الذي صارت فيه مدخراتي تسمح بشراء جاكت رخيص الثمن وجدته في محل ثياب. ابتعت بول أوفر أسود، وعرفت أنني حصلت على المراد من رب العالمين..
لكني لم أجد الجرأة قط لأرتدي هذا الطقم.. بدا لي أكثر فخامة وأناقة من أن تعتاده عيون الناس. سوف ألبسه مرة فينبهرون.. ألبسه مرة أخرى فيعجبون.. ثم مرة ثالثة فيبتسمون .. بعد هذا لا يلاحظون على الإطلاق.. هذا شيء قاسٍ جدًا..
لهذا وضعت البذلة في خزانة الثياب وملأت الجيوب بالنافتالين كي لا تجد الحشرات طريقها إليه، وقررت أن هناك مناسبة مهمة في حياتي آتية حتمًا..
دعوة لحفل أوسكار..
دعوة لتسلم جائزة نوبل..
الزواج من مارلين مونرو..
هذه المناسبة سوف تستدعي أن أخرج هذه الأعجوبة من مكانها.
بعد عامين جاءت عايدة للكلية.. الفتاة الرقيقة الساحرة، وقد عرفت منذ اللحظة الأولى أنني أحبها.. وعرفت أنها لن تفلت مني..
هكذا رحت أتودد لها وكانت هي تقبل توددي بمزيج من المكر والبراءة. وكنت أدخر الملاليم القليلة التي معي كي أشتري لها هدية صغيرة أو حلية رقيقة.. فكانت تقبل وترفض..
هنا ظهر ذلك المعيد الشاب الوسيم.. كان اسمه زكريا.. فارع الطول أشقر الشعر، له عينان زرقاوان. وكان محاضرًا ظريفًا فعلاً، بارعاً في العلم الذي يدرسه. الحقيقة أن كل فتيات الدفعة حاولن الظفر بإعجابه أو اهتمامه لكنه بدا سابحًا في عوالم أدونيسية لا نعرفها.
وعرفت من رفاقي أن أباه من أعيان ما قبل الثورة.. باشا قديم من ملاك القطن، وقد ترك له ثروة لا بأس بها وقصرًا منيفًا.. كل هذا برغم التأميم الذي اقتص الكثير..
كنت أشعر بغصة في حلقي، ولم يمنعني من كرهه بجنون سوى أنه كان مهذبًا ولطيفًا معي.. رحت أدعو الله ألا يراها.. دعه لا يراها يا رب..
هنا حدثت الكارثة..
وقعت عايدة في مشكلة مع أحد أجهزة الفيزياء في المختبر وطلبت منه العون، فجاء يساعدها ويمازحها..
هكذا توطدت العلاقة بينهما..
ثم جاءت تلك الرحلة إلى القناطر الخيرية، حيث قررت هي أن تذهب فذهب زكريا الوسيم معنا، وراح يغني ويمزح ويقود المرح في الحافلة، بل إنه تجرأ ودنا منها وراح يغني وهو ينظر في عينيها.. كأننا في أحد أفلام نجاة الصغيرة القديمة.
عرفت أن الحين قد حان.. لقد اقتربت لحظة الخطر جداً. خلال يوم أو يومين سوف تعود ملوحة بالخاتم في إصبعها..
إما الآن أو لا للأبد..
إن من يملك الجاكت المشمشي ولا يستعمله في لحظة كهذه، هو خائن.. مثل الجنرال الذي يملك صواريخ قوية ثم لا يستعملها ويترك بلاده تحتل..
لقد حان وقت الجاكت.. سوف ألبسه وأذهب للكلية غداً، وسوف أبهر عيون كل من يراني.. سوف تنقطع الأنفاس.. وعايدة ستكون لي أنا..
لبست البول أوفر الأسود الرائع..
نظرت لنفسي في المرآة وبدأت أرى صورة عايدة جواري، اتجهت لخزانة الثياب وأخرجت الجاكت.. لبسته ووقفت أرمق نفسي في انبهار.. ثم أدركت أن هناك خطأ ما.. هذه البقع عند الجيوب. لقد ذاب النفتالين ليتلف الجيوب كلها.. ومن الواضح أنه لا يمكن تنظيفها.
لقد انتهى الجاكت ومعه انتهيت أنا، وانتهت فرصتي في السعادة..
ومنذ ذلك اليوم صرت أديبًا يائسًا يكتب قصصًا مريرة.
لقد خرج الأدب الروسي كله من معطف جوجول، أما أدبي فقد خرج من جاكت مشمشي أتلف النفتالين جيوبه.
من يدري؟.
ربما كان هذا أفضل.. فقط أرجو ألا تقرأ عايدة هذه السطور وهي جالسة جوار زوجها زكريا لو كان ما زال حيًا.
د.أحمد خالد توفيق