عشاق أنفسهم
هناك في كل مكان أشخاص يحبون أنفسهم بشكل غير عادي.. لدرجة العشق، حتى إنني اعتقد أنهم يتبادلون القبلات مع أنفسهم إذا وجدوا مكاناً شاعرياً..
قلت في مقال سابق إنني مندهش من رجل يطلب مئة ألف جنيه ثمنًا لسيارته التي لا تتجاوز ثلاثين ألفًا بحال، أو يريد بيع شقة لا يتجاوز ثمنها 200 ألف جنيه بمليون جنيه..
لا تندهش .. هو يحب نفسه بدرجة مكثفة ويرى من الطبيعي جدًا أن يطلب هذا لأنه يستحق.. لماذا يستحق؟.. لأنه هو..
ذات مرة قرأت إعلانًا مبوبًا نشرته سيدة مطلقة أو أرملة تقول:
ـ«أريد زوجًا ينفق علي أنا وابني.. ويعطيني شقة (تمليك).. من فضلكم أريد من يعطيني شقة (تمليك).. أريد أن ينفق عليَّ أنا وابني ويحمينا.. وأريد شقة (تمليك)».
هل أعطت السيدة أي وعد؟..
هل هناك صورة تثبت أنها تستحق هذه التضحيات؟..
هل هي أغنى امرأة في العالم؟... هل هي ملكة جمال فنزويلا؟..
إذن ما المبرر ومن الفدائي الذي يقوم بهذا لمجرد أنها هي؟.. يفعل هذا كله لامرأة لم ير صورتها ولديها ولد!.. التفسير هو أنها تحب نفسها بجنون.. ترى أنها تستحق كل شيء..
الأمثلة كثيرة في ذهني..
ابنتي الصغيرة عادت من مدرستها متهللة متوردة الوجه تحمل لنا بشرى.. المدرسة تقيم حفل شواء في المزرعة المجاورة لها. ناولتني ورقة بها ذلك التنويه:
«يشرفنا دعوتكم لحفل الشواء (باربكيو) الذي تقيمه مدرسة (عيني يا عيني) يوم الجمعة المقبل. على ولي الأمر أن يحضر معه الفحم وأدوات الشواء.
سعر الاشتراك في الحفل مئة جنيه.
«ملحوظة: نرجو أن يحضر ولي الأمر اللحم معه!»
قرأت الرسالة ورحت أضرب كفًا بكف..
ما الذي تقدمه المدرسة إذن؟..
الفحم واللحم والمئة جنيه عليك. ما التضحية في الموضوع؟.. هل الفكرة هي أنهم يقدمون المكان؟.. أي مكان؟.. هم سيجعلوننا نجلس في الحقل.. والحقل ليس ملكًا لهم.
لكن ابنتي كانت متحمسة جدًا لهذا الشيء الرائع.
ألطف مدرسة في الكون، وبالطبع لو رفضت المشاركة في حفل «النصب» هذا، فأنا ألعب دور الذئب الشرير في قصص الأطفال التي تطالعها..
ذهبت فعلاً للحفل وشويت لحماً، وكان أظرف شيء هو أن المدرسين دعوا أنفسهم إلى اللحم الذي ابتعته أنا على سبيل التبسط والظرف، وكانت ابنتي فخورة جدًا لأن معلميها يشاطروننا الطعام.. يعني لو جمعوا شريحة لحم وإصبعي كفتة من كل أب أحمق لظفروا بوليمة مجانية رائعة.
هل هو حفل؟..
بالطبع هو حفل.. حفل النصب على أولياء الأمور وجمع المال منهم.
تذكرت الرحلة التي قامت بها المدرسة ذاتها، وعادت ابنتي تزف لي خبر أنهم أطعموهم في محل شهير لـ«الهامبرجر».. سمحوا لهم بأن يأكلوا كما يشاءون. بدا لي هذا كرماً مبالغاً فيه فسألتها عمن دفع الثمن من المعلمين، فقالت:
ـ«نحن! .. توقفت الحافلة أمام المطعم وقالوا لنا أن ندخل ونأكل ما نريد وندفع ثمنه ثم نعود لهم.. سوف ينتظروننا!»
يا له من كرم فعلاً..
لماذا تفعل المدرسة هذا ؟..
لأنها تحب نفسها إلى درجة العشق كما قلنا..
ذكرني صديق لي بذلك المشهد العبقري الذي كتبه لينين الرملي وأداه صبحي في مسرحية «تخاريف»، عندما يتعهد الدكتاتور بأن ينفذ ذلك الجزء من الرأسمالية الذي يختص بجمع المال من الناس، ثم يتناسى الجزء الخاص بإعطائهم خدمات في المقابل... يجمع ضرائب ولا يرصف الشارع.. يتقاضى أرقامًا فلكية في فواتير الكهرباء وعلى الرغم من هذا يسود الظلام.. و ... و ... حفل الشواء هذا تكرار فاضح لما يحدث في المدارس الأميركية، لكن لا أعتقد أن مدارس منيسوتا تقول للطلاب:
ـ«هاتوا اللحم معكم»
هي إذن مزيج من الرأسمالية الأميركية والفهلوة واللصوصية بحيث يكون الناتج مسخاً بلا معالم.
إن الذين يعشقون أنفسهم في كل مكان.. تقابلهم في كل صوب.. بدءًا بالفتاة التي تسمي نفسها «كتكوتة» في الفيسبوك أو البريد الإلكتروني، والشاب الذي يلتقط لنفسه عشر صور وهو مسبل العينين يحلم، مرورًا بالسيدة التي تطلب شقة مجانية لأنها هي، وبالشقة التي تبلغ مساحتها مساحة منشفة المائدة ويطلب صاحبها لها ثمن قصر، وانتهاء بالدولة التي تحصل ضرائب مفزعة بلا خدمات.
نشر لأول مرة يوم السبت 28 سبتمبر 2013
احمد خالد توفيق