حرية الزوجات
أحلى أمل في الدنيا هو الحرية ..
الطفل يحلم بأنه يلعب في حرية ..
البنت تحلم بأنها تحب في حرية ..
الرجل يحلم بأنه يعمل في حرية ..
ومع هذا فالحرية وحدها لا تسعد الانسان أبـدا ..
الحـرية والفراغ والشباب والامكانيات إذا توفرت لانسان ولم يكن معها هدف تنشغل بتحقيقه تتحول إلى محنـة وعـذاب وملل وتلف عصبی ..
الحرية تطالب بدينها باستمرار .. تطالب بالمسئولية .. تـطالب بعبء تحمله .. وإن لم تجد عبئا تتحول هي نفسها إلى عبء لا يحتمل ولا يطاق ..
الجندي البسيط إذا جاءته ليلة القدر .. وقالت له اذهب .. أنت مارشال .. أنت قائد حر التصرف في الجيش كله .. من الآن أنـت مطلق من كل قيد ومن كل أمر ، من الآن كلمتك أنت هي الأمر ..
لا أحد يقرر لك مصيرك ، لا أحد له الحق في أن يصـدر إليـك تعليمات .. أنت منذ اللحظة مصدر كل التعليمات .. ومقرر لكل المصائر .. لو حدث هذا للجندي البسيط .. فإنه سوف يصاب بالذهول .. ثم يصاب بالخوف .. ثم يرتعد من هول الموقف ..
إن كل كلمة يقولها يمكن أن تقرر مصير الجيش كله .. ومـن يدريه أنه لن يخطئ التقدير .. وأنه لن يودي بحياة مليون جندی مثله وهو يخطط المعركة ويصد الأوامر .. إن جسامة المسئولية تشل عقله من الخوف .. وهـو سـوف يرفض هذه الحرية .. ويرفض هذه الهبة التي تمنحها له ليلـة القدر .. ويقدم استقالته ويطالب بالعودة إلى منصبه الصغير کجندى بسيط يتلقى أمرا بالزحف فينفذه بلا تصرف وبلا تفكير ويتقدم تحت وابل النيران ليموت في بساطة .. فهذا أهـون ألف مرة من حرية تضعه في مفترق الطرق .. ليقرر .. ويتحمل مسئولية جيش بأسره . ويواجه مشكلة الاختيار .. والتصرف .. والتـردد .. والحيرة .. في كل لحظة .
إن الحرية بالنسبة لهذا الجندي البسيط هي حالة من التوتر والانزعاج والقلق .. لا تحتمل .. لأنه ليس مسلحا بالأدوات التي تمكنه من الافادة من هذه الحرية .. ليست لديه القدرة على حمل المسئولية .. وليست لديه الكفاءة التي يوظف بهـا إمكانياته .. ولا الأهداف التي يخطط من أجلها .. ولا يعرف مـاذا يريد .. ولا كيف يتصرف بحريته .. إن الحرية عنده بلبلة .. وضيق .. وخوف .. وعبء ثقيل يتمنى الخلاص منه .. وهذه مشكلة الحرية .. انها مادة ثمينة جدا ولكنها خـطرة .. مثل مادة الراديوم أغلى من الذهب والبلاتين ... ولكنها خـطرة مدمرة محرقة .. تشع إشعاعات قاتلة .. وهي تستطيع أن تشفى من السرطان..ولكنها يمكن أن تسبب السرطان .. إذا لم يعرف الطبيب كيف يستعملها .. الحرية بدون أهداف وبدون برنامج وبدون غاية تبـذل مـن أجلها .. عبء ثقيل ..
الزوجة التي يعفيها زوجها من العمل في البيت ويجلـب لهـا ثلاثة من الخدم وغسالة بالكهرباء وكناسة بالكهرباء .. وسـخان بالبوتاجاز .. ثم يعطيها الحرية في الخروج والعودة على كيفهـا .. ثم يعفيها من الحمل حتى لا تشقى بتربية الأطفال سوف تقع ..في ورطة .. لأنها ستواجه ۱۲ ساعة مـن الفـراغ كل يـوم .. لا تعرف كيف تقضيها .. ۱۲ ساعة بدون أهداف بدون أطفال .. بدون واجبات في البيت .. بدون خطة في ذهنها لملء هذا الوقت .. مثل هذه الزوجة إما أن تصاب بالصرع .. وإما أن تدخل مستشفى الأمراض العقلية .. وإما أن تتصوف .. وإما أن تقـود ثورة .. أو تؤلف حزبا نسائيا .. أوتتردد على بيوت مشبوهة .. أو تحترف حمل الأثقال .. أو تلعب المصارعة اليابانية .. أو تـؤلف الشعر .. ولكنها لن تكون أبدا زوجة سعيدة .. ولن تكون زوجـة بمفهوم الزوجات .. قناديل البيوت .. إن الرجل الذي يعمد إلى إراحة زوجته بإعفائها من العمـل في البيت يوقعها في مشكلة أشق وأقسى من تعب البيـت .. هـي مشكلة حريتها التي سوف تلجأ إلى حلها بأسوأ الحلول .. وإذا كان لابد من إعفاء المرأة من واجبات البيـت فعلـى رجلها أن يجهز لها دورا آخر تملأ به نهـارها وليـاليها حتـى لا تسود لياليه بحيرتها وقلقها ومللها .
وإذا أراد الزوج أن يمنح زوجته حرية .. فليمنحهـا عمـلا .. فليمنحها هدفا .. وليمنحها دورا تفنى فيه وتوظف فيه حريتها .. وإلا فإنها سوف تدمره وتدمر نفسها بهذه الحـرية .. وسـوف تتحول إلى إنسانة عاطلة ملولة مشاكسة تقضي نهارها في نـادي الجزيرة تعرض فتنتها على أولاد الذوات العاطلين أمثالها .. وتقضى ليلها في سهرات البوكر .. ثم تخنق أنفاسه أخـر الليـل بمطالبها ..
إن الحرية ليست ترفا .. إنها ليست هدية يقدمها الـزوج لزوجته مثل جورب النيلون أو زجاجة عطر الشانيل .. إنها لعنـة حينما يقدمها ومعها شهادة بالاعفاء من العمل ومن المسئولية .. إنه يكون بذلك قد قدم مشكلة لزوجته .. ولم يقدم لها هدية .. وأفضل لها أن تعيش كالجندي البسيط يتلقـى الأوامـر وينفذها بلا تصرف .. على أن تكون مارشالا بدون عمل ، ويـدون برنامج ..
والزوجة التي تبحث عن حرية .. ولا تبحث عن عمـل لهذه الحرية .. لا تفهم معنى الحرية .. ولا تستحق أن نعطيها هـذه الحرية أبدا .. وحرية الرجل الذي عاش محسودا عليها دائما من المـرأة .. لم تكن أبدا حرية غير ذات موضوع .. وإنما كانت هبة يدفع في مقابلها كل شيء .. كان هو دائما الذي يعمل .. هو الذي يكسب وهو الذي يزرع ويصنع ، وهو الذي يفكر ويختـرع ويقـود .. لم تكن حريته هدية .. لم تكن غسالة بـالكهرباء تـوفر له ذراعيه .. ولم تكن كناسة بالكهرباء توفر له المجهـود .. لينـام ويتمدد عاطلا في نادي الجزيرة .. وإنما كانـت حـريته عمـلا وانشغالا ومسئولية .. وسهرا في المصانع والمعامل والمدارس ودواوين الحكومة .. وكفاحا في ميادين القتال .. وهذا هو المعنى الحقيقي للحرية .. وهذا هو العذر الوحيد للرجل في حريته التي انفرد بها وامتاز بها على المرأة .. وإذا كانت الزوجات يطالبن الآن بـالحرية .. فليس لهـن إلا هذه الحرية .. الحرية بمعنى العمل والمشاركة في المسئولية وحمل الأعباء .. أما حرية التسكع في الشوارع .. والرقص والشرب والسهر في النوادي . أما حرية كشف الساقين وتعرية الصـدر والكتفين .. وحشر الجسم في السيلوفان الشفاف .. لزغللة العيون .. وجر قطار مـن المعجبين ، أما هذه الحرية فليس لها إلا معنـى واحـد .. هـو خراب البيوت .. وأول من ستشقى بهذه الحرية هي المرأة نفسـها .. إنهـا ستبكي من العذاب إذا كان لها عشيق واحد .. وسـتبكي مـن الملل إذا كان لها عشرة عشاق .. وستبكي من الهوان إن طلقها زوجها .. وستبكي من الندم إذا تشرد أولادها .. وسـتبكي مـن الوحدة حينما تبلغ سن الأربعين وتترهل .. وينفض من حـولها العشاق .. وتفتقد دفء البيت .. وتفقد حنان الأولاد...وستكتشف أن هذا البريق الذي كانت تجرى خلفه لم يـكن الحرية .. وإنما كان عبودية غرائزها . وقيود أنانيتها...
إن الزوج الفطن هو الذي يشغل زوجته في البيت دائمـا .. ويضع على كتفيها مسئولية البيت بلا خدم .. وبلا حشم .. إنه بهذا يدخر لها الهدف القريب الذي تنشغل به .. وتشـغل به يديها وعقلها وقلبها .. وتوظف حريتها لخير البيت .. ولصـالح الحب الوحيد الحقيقي الذي تعيش له .
من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود