anyquizi logo

جدًا...جدًا....

جدًا...جدًا....

جدا .. جدا ..


إن أسوأ ورطة نقع فيها هي أن يستحوذ علينـا أي شـيء جدا .. جدا .. حتى الفرح حينما يستحوذ علينا جدا .. جدا .. فإنه يهزنا بما يشبه الحزن .. إننا من فرط خوفنا على هذا الفرح ..

ومن فـرط لهفتنا على أن يطول .. ومن فرط ذعرنا من أن ينتهي .. نفـرح بحزن .. نفرح بخوف .. نفرح والدموع تترقرق في أعيننا ..

إن فرحنا جدا .. جدا .. فرح أليم .. فرح يرتجف .. فرح يبكي .. والحب جدا .. جدا .. هو حب مر غیور ملتهب أعمـى يبهـظ صاحبه لدرجة أنه ينقلب إلى كراهية وعداوة .. المحب جدا .. جدا .. يكره حبيبته من فرط حبه لها .. لأن حبه يكلفه ويرهقه ويبهظه ويؤرقه .. فهو يتمنى لو أنها تعذبت وتألمت وسهرت وتشردت مثله .. يتمنى لو أنها كانت على شـفا المـوت ونادته .. لو أنها كانت تحترق ومدت له يديها لينقذها .. لو أنهـا كانت تعبده حبا وهو يتمنع عليها .. لو أنها كانت تخلص له وهو يخونها .. إن عذابه يجعل مخيلته تموج بصور العـداوة .. والانتقام .. والتشفى ..

إن الحب جدا .. جدا .. حب طعمه مالح حريف لاسع .. إن فيه نفورا وبغضا بقدر ما فيه من حب . إنه لعنه ..

والثراء جدا .. جدا .. هو فقر مدقع في نفس الوقت .. فقـر في الحواس .. حواس الغني جدا .. جدا .. المترف جدا .. الشبعان .. المتخم .. الدفيان .. تتبلد .. وتكسل .. أشواقه تكسل .. ولهفاته تكسل .. ولماذا يشتاق .. ولماذا يتلهف .. وكل شيء بين يديه ..

والجوع جدا يقتل حتى الاحساس بالجوع .. وينتهى بمـوت الحواس .. وبشيع الفناء وقناعة الجدث الهامد ..

والفقر جدا .. يؤدى إلى الاستهتار والاسراف والاستهانة بالرزق من فرط قلته .. وكما يقول المثل .. ضربوا الأعمى علـى عينه .. قال خسرانة .. خسرانة .. وعلى إيه حانحوش إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب ..

والشيخوخة جدا تؤدى إلى انحلال العقل .. والعودة بالتفكير إلى سذاجة الطفولة .. وهذيانها .. والضعف جدا .. يؤدى الى جبروت الشخصية وقسوتها .. وأصحاب العاهات جبابرة ..

والقصار جدا .. بهلوانات سيرك .. وأدنياء الأصل طموحون طلابون للعلا .. وأبناء الوجهاء عواطلية...
والاستهتار بشدة يؤدى إلى التوبة .. والرهبنة .. والاغراق في اللذة يؤدى إلى النفور من اللذة . والارتداد إلى الدين والصومعة .. والاستقامة بشدة تؤدى إلى الضيق بالاستقامة . وكل شيء يزيد على حده ينقلب إلى ضده .. وجدا .. جدا .. هي الجرس الذي يدق لتنقلب الصفات علـى رأسها .. البركات تصبح لعنات . والسيئات تصبح حسنات .. ..

والسعادة ليست في أن يكون عندك الكثير جدا .. وإنما السعادة في أن تحب الدنيا والناس .. وأن تـواتيك الفرصة لتأخذ بنصيب قليل من خيراتها .. إن القليل الذي تحبه يسعدك أكثر من الكثير الذي لا تحبه . والقليل يحرك الشهية .. بينما الكثير بميتهـا ..

وبـلا شهية لا وجود للسعادة .. والقليل يحفز على العمل .. وفي العمل ينسى الانسان نفسه وينسى بحثه عن السعادة وهذا في الواقع منتهى السعادة .

والعمل تشحيم ضروري للعقل والقلب والمفاصل .. وبـدون العمل تصدأ المفاصل ويتعفن القلب وينطفئ العقـل .. وينخـر سوس الفراغ والبطالة في المخ .. فتبدأ سلسلة من الأوجـاع يعرفها أفراد الطبقة الراقية .. ويعرفها أطباء الطبقة الراقية .. ولذلك أعتقد أن أسعد الطبقات هي الطبقة المتوسطة .. لأنها الطبقة التي تملك القليل من كل شيء ، فهي ليست معدمة مفلسة كالطبقة الدنيا ، وليست متخمة كالطبقة الراقية .. ولهذا فهي الطبقة التي تملك الدوافع .. والآمال .. والمـطامع والمثل العليا .. والأخلاق .. والامكانيات .. مطامع وهي لهذا .. الطبقة التي يخـرج منها العلمـاء والفنـانون والعباقرة والزعماء والأنبياء ..

ومن فضائل الوسطية أنها تضغط الطبقات وتذيبها في عجينة متوسطة خصبة .. وتشغل جميع الأيدي بالعمل .. إن المليون جنيه شتمه .. والذي يقول لي .. إلهى يرزقك بمليون جنيه .. كمن يقول لي .. إلهى يرزقك بكارثة .. وتعالوا نفكر معا .. لو أني وضعت المليون جنيه في بنك لكنت بهذا أرتكب جريمة بتجميد هذه الامكانية المادية في رصيد باسمي . ولو أني أنفقته على نفسي لكنت بهذا أرتكب جريمة أبشع لأن إنفاق مليون جنيه على نفسي معناه أن أتوقف عـن كل عمـل منتج .. وأتحول إلى مستهلك ينفق فقط .. وهذا معناه شلل كامل في قواى الانتاجية .. .

ولو أني انتفعت بالمليون جنيه كرأسمال تجـاری ، فسيكون معناه استغلال ألف عامل .. وملايين المستهلكين المساكين .. أتاجر بهم .. وأتاجر عليهم .. وأبتـز أمـوالهم لمجـرد أنهـم لايملكون إلا أثمان بضاعتي .. بينما أنا أملك كل الخامات التـي يحتاجون إليها ..

إن المليون جنيه في يد واحدة هي في الواقع إمكانية ظلـم لا نهائية لآلاف الأيدي التي لا تملك .. وإمكانية ظلـم حقيقيـة لصاحبها لأنها تضعه في قائمة الذين يملكون كثيرا جدا .. جدا .. ويخسرون من أرواحهم بقدر ما يكسبون لأرصدتهم .. ولهذا فأنا أشعر بالسعادة .. لأني رجل متـوسط .. إيـرادي متوسط .. وصحتى متوسطة .. وعيشتى متوسطة .. وعندي القليل من كل شيء .. وهذا معناه أن عندي الكثير مـن الدوافع ..

والدوافع هي الحياة .. إنها الرصيد الذهبي لكل المكاسب الورق .. إنها المتجمد في خزينة كل إنسان . إنها المتجمد الذي نفك منه كل يوم الـرغبات التي نعيش بها .. ونحن نعود فنفك هذه الرغبات إلى خبطات مادية .. وفـرص نكسبها ونخسرها .. وهذه الخبطات هي العملة الورق .. أما الرصيد الحقيقي فهو الدوافع . الدوافع في قلوبنا هي حرارة حياتنا الحقيقية .. وهي الرصيد الذي يكون به تقییم سعادتنا ..

لا تسألني .. هل عندك صحة..هل عندك ثروة .. هل عندك شهادة .. هل عندك فرصة .. هل عنـدك أملاك .. اسألني سؤالا واحدا .. هل عندك دوافع .. فهذا أنا .. وهذه حقيقتي التي بها تعرف حاضري ومستقبلی ومصيرى وقیمتی ووزنی .. وكل منا يوزن بقدر دوافعه وإرادته .. وعـزمه .. وإصراره .. وقواه الحافزة .. إن الذي يملك وفرة من الدوافع مثل الماكينة قـوة مـائة حصان .. أو العربة ستة سلندر أو الراديو عشرة لمبة أو التيـار الكهربائی ۲۰۰ فولت . أما الذي يفتقر إلى الدوافع .. ويمتلك كثرة من وسائل الترف ووفرة من الصحة والعمر فهو حتى ولو كان مليونيرا لا يزيد عن ماكينة ضعيفة قوتها الدافعة ٢ حصان أو عربة صغيرة ٢ سلندر أو راديو ترانزستور أو تيار بطارية واحد ونصف فولت .

الدوافع هي الترجمة الحرفية لكلمة روح .. عندك دوافع معناها عندك روح .. معناها عندك أمل .. طموح .. شهية ..حب...شغف .. رغبة .. كل وسائل السعادة ..

إني أدعو الله لقارئ هذه السطور أن يمنحه حياة متوسطة .. ويعطيه القليل من كل شيء .. وهي دعوة طيبـة والله العظيم .. دعوة نصوحة .. مخلصة لوجه الخير والحب..

أدعو الله أن يقيه شر المليون جنيه .. وأن يحفظه من ملكية العمارات الشاهقة .. والأبعديات العريضة .. وأمي لم تكن تفهم الفلسفة .. ولكنها كانت تملك فطرة نقيـة تفهم معها كل هذا الكلام دون أن تقرأه .. وكانت تطلق عليـه اسما بسيطا فصيحا معبرا..هو .. الستر .. والستر معناه في القاموس الشعبي .. القليل من كل شيء والكثير من الروح .. وأنا بعد ثلاثين سنة من التفلسف وقراءة المعاجم والمراجع والمصطلحات ..

لم أجد أفصح من هـذه الكلمة البسيطة الستر .. ولهذا فأنا أطلبه لك كما كانت أمي تطلبه لي .. وأعتبر أنـى بهذا أكون قد طلبت لك كل شيء .. ملحوظة : أنا متأكد أنك بعد قراءة هذه الكلمات سـوف تمصمص شفتيك وتقول .. وإيه يعنى .. ما هو مفهوم الكلام ده ..

ومع هذا فإنك في أول فرصة تقع فيها على كاديلاك ٨١ في الشارع سوف تصرخ بلهفة وعيناك تكادان تخرجان من رأسك .. ياسلام لو الواحد عنده عربية زى دى .. ياسلام يـاولاد .. ياسلام على كاديلاك وعمارة ومليون جنيه .. ياخواتي .. ويحـرقة أكثر من حرقة مطربي هذه الأيام سوف تكتشف أن كلامـى العادي المفهوم لم يكن مفهوما .. وأنك لم تكن في أي فاهما لنفسك . وأن حكاية الفهم .. حكاية طويلة ومتعبة .. جدا .. جدا ..

من كتاب في الحب والحياة
للكاتب مصطفى محمود


عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر
تابعنا على الفيسبوك تابعنا على تلغرام

إختبارات قد تعجبك